الشاعر في مواجهة الذئب..ها أنذا أراني مأخوذا من جديد – كما في موضوع “الربيع” السابق – بالمقارنة بين شاعرين آخرين هما : الفرزدق ، و البحتري في وصفهما مواجهة مع حيوان مفترس هو الذئب وصولا إلى معرفة الوصف الأفضل فنيا ، فلنبدأ بالفرزدق:
وأطلس عسال وما كان صاحبا دعـَوت بنـاري مـَوهِـنا فأتـاني
فلما دنـا قلت ادن ،دونـك ، إنّني وإيـاك في زادي لـمشـتـركـان
فـَبـِتّ أقـُدّ الـزاد بـيـني وبـيـنــه على ضَـوء نـارٍ مـرّة ودخـان
فقـُلـت لـه لـمّـا تكشّـر ضاحكـا وقائـم سـيـفي من يدي بمكـان
تعـشّ فإن عاهدتني لا تخـونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما أخـَيـّيـْن كـانـا أرضِعـا بـِلـَبـان
ولو غيـْرَنـا نبّهـتَ تلتمس القـِرى أتـاك بسـهـم أو شـَبـاة سـِـنـان
وكلّ رفيـقـَي كلّ رحل وإن هما تعـاطى القنـا قوماهما أخـَوان
أما البحتري فقد قال في ذئب لقيه في البادية :
وأطلس ملء العين يحمل وزره وأضلاعه من جانبيه شوى نهد
له ذنب مثل الرشاء يجره ومتن كمتن القوس أعوج منأ د
طواه الطوى حتى استمر مريره فما فيه إلا العظم واللحم والجلد
يقضقض عصلا في أسرتها الردى كقضقضة المقرور أرعده البرد
سما لي وبي من شدة الجوع ما به ببيداء لم تعرف بها عيشة رغد
عوى ثم أقعى فارتجزته فهجته فأقبل مثل البرق يتبعه الرعد
فأوجرته خرقاء تحسب ريشها على كوكب ينقض والليل مسود
فما ازداد إلا جرأة وصرامة وأيقنت أن الأمر منه هو الحد
فأتبعتها أخرى فأضللت نصلها بحيث يكون اللب والرعب والحقد
فخر وقد أوردته منهل الردى على ظمإ لو أنه عذب الورد
أطلس : ضارب للسواد . الزور : الصدر . الشوى : اليدان و الرجلان
نهد: مرتفع . الرشاء: الجبل منأ د : منحني
الطوى : الجوع مرير: عزيمة يقضقض: يكسر العظام
العصل : الأنياب المعوجة . ارتجز: أنشد شعر الرجز أقعى: قعد على إليتيه
أوجر : طعن بسهم أضللت : أصبت
لاشك أن هناك فروقا واضحة بين الشاعرين في تناولهما هذا الموضوع إذ يتعامل الفرزدق مع الذئب كأنه شخص خطير جائع مكتفيا بوصف لونه الضارب إلى السواد إذ يدعوه إلى المشاركة معه في زاده و أنه في الوقت نفسه مستعد للدفاع عن نفسه إذ ما خطر للذئب أن يختار العراك ، بهذا يغدو الشاعر و الذئب أخوين إذ ما قبل الذئب ضيافة الشاعر كما تفرض تقاليد الضيافة في الصحراء المقفرة بدلا من الصراع المميت.
أما البحتري فإنه يتناول الموضوع من خلال قناعة أخرى مبنية على موقف حذر جدا، و هكذا نرى الشاعر يركز على وصف الذئب كوحش مفترس يفرك أنيابه بعضها على بعض و يرفع عواءه و هو يهم بالإنقضاض على الشاعر الذي يدافع عن نفسه مطلقا سهما طائشا في المرة الأولى ثم سهما مميتا في الرمية الثانية و هكذا ينتصر الإنسان الماهر في إستخدام سلاحه غلى الوحش الكاسر.
إذا قارنا الأن بين القصيدتين فسوف نميل مع الفرزدق الذي إستخدم الأسلوب الإنساني مع الحيوان الجائع، في حين أن البحتري يتعامل مع الذئب كحيوان مفترس لا سبيل للتفاهم معه ، و بهذا المعنى قدم لنا وصفا مفصلا لشكل الذئب الجائع و لحركاته الوحشية فتبدو القصيدة أشبه بلوحة متحركة مثيرة للعراك بين الإنسان و الحيوان المفترس.
و بهذه المقارنة قد لا يكون ممكنا الخروج بحكم قاطع لصالح شاعر على آخر فتكتفي بإصدار حكم نعبر فيه عن أن الشاعرين متساويان في الإداء الفني إذا ما أخذنا في الحسبان أن الشاعرين كانا بالرغم من إختلاف وصفهما الفني مخلصين لطبيعة الخطر الذي تعرض كل منهما له حسب قناعة فرضها الموقف الذي تعرض له الشاعر مختلفا عن الشاعر الأخر.