نوافذ

الشوك…. بين حدائق باريس ودروس الحياة

مقبل الميلع

باريس- لم يكن الهروب من صخب الفندق سوى رغبة هادئة في استعادة شيء من الصفاء. فهناك، عند بهو الاستقبال، كان العمّال يروحون ويجيئون، يجرّون حقائب النزلاء بين الطوابق، بينما المصعد يبتلع الطوابق واحدة تلو الأخرى دون توقف. خرجت أبحث عن ركن أقل ازدحامًا، فقادني الطريق إلى مقهى دي فلور، ذلك المقهى الباريسي الشهير الذي يشبه جزءًا محفوظًا من ذاكرة الأدب والفكر الفرنسي. في هذا المكان جلس يومًا جان بول سارتر وسيمون دي بوفوار، يتحاوران فوق الطاولات المستديرة، وتحيط بهما رائحة القهوة ووقع خطوات المارّة، وكأن المدينة كلها كانت تستمع إليهما.

بعد لحظات من السكون والنظر عبر نافذة المقهى، غادرت مستقلاً سيارة أجرة في اتجاه الشانزيليزيه. لكنّ صوت المغنّي الفرنسي جو داسين انساب عبر مذياع السائق بأغنيته حديقة لوكسمبورغ، فحرّك في داخلي فضولًا مفاجئًا. طلبت من السائق تغيير الطريق، وها أنا بعد دقائق أقف أمام واحدة من أجمل حدائق باريس وأكبرها.

كانت حديقة لوكسمبورغ لوحة طبيعية مترامية، تنسجم فيها ألوان الورود مع هدوء المسارات وتناسق الأشجار. وبين هذا الجمال، استوقفتني وردة جوريّة، دمشقية الملامح، بدت كأنها تحرس ذاكرة مدينة كاملة. تمنّيت أن أقطفها وأستنشق عبقها الذي ذكّرني ببلدي، لكن قانون حماية النباتات، والأسلاك التي تلفها، والأشواك الممتدة على غصنها، كلها جعلتني أكتفي بالنظر. وقفت لحظة صامتًا، وهناك تسللت إلى ذاكرتي كلمات جدي الراحل

كان عمري عشرة أعوام عندما قال لي:

“احذر يا بُني من الشوك… ليس شوك الورد، بل شوك الحياة.”

ثم شرح لي معنى أحرف الكلمة الثلاثة:

الشين – الشراكة:

“الشراكة يا ولدي تبدأ بودّ، لكنها قد تنتهي بنزاع. الطمع حين يدخل بين الشركاء يطمس بصيرتهم، فيغشّ أحدهم الآخر، فتنهار الشركة وتضيع الثقة.”

الواو – الوكالة:

“الوكالة سيف ذو حدّين. تعطي شخصًا صلاحية فيستغلّها، وقد تُفرّق بين إخوة. أعرف رجلًا وكّل أخاه وكالة عامة فباع الأملاك وسجّلها باسم زوجته.”

الكاف – الكفالة:

“الكفالة مسؤولية ثقيلة، والكفيل فيها كالأصيل تمامًا. كثيرون تورطوا في كفالة أشخاص لا يخافون الله، فهرب المكفول وبقيت المسؤولية على الكفيل وحده.”

ثم ختم جدي حديثه بحكمة لا تزال ترنّ في أذني:

“حين تغيب الأخلاق يختلّ المجتمع، وما أحوجنا إلى صدق في التعامل، بعيدًا عن الطمع والأنانية.”

في تلك الحديقة، أمام وردة عجزت عن لمسها، أدركت كم كان جدي محقًا… فبعض الدروس لا يعلّمها الشوك، بل الحياة نفسها.

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى