الصراع الإيراني – السعودي بالوكالة وتقسيم أراضي دول المنطقة

على الرغم من أن الصراع بين السعودية وإيران يرتدي ثوبا مذهبيا، وقناعا طائفيا، إلا أن ما تحت الثوب والقناع يبدو أخطر بكثير.

هذه النتيجة البسيطة وصل إليها الباحثون الجادون ومراكز الأبحاث الرصينة. فمع توقيع الاتفاق النووي الإيراني مع السداسية الدولية، اختلطت الأوراق بعض الشئ. فإيران المغضوب عليها من الغرب بدأت بالانفتاح على نفس هذا الغرب الذي عزلها وفرض عليها العقوبات. بينما السعودية التي كانت تمثل رأس حربة للغرب، بدأت تشعر بالغبن والضغوط واستعداد الغرب للاستغناء عن خدماتها.

لقد شاركت إيران والسعودية على التوالي في إضعاف العراق: الأولي عبر حرب السنوات العشر، والثانية في مرحلة ما بعد غزو نظام صدام حسين للكويت. وأصبح العراق الآن مقسَّما طائفيا وجغرافيا بين هاتين الدولتين. وقد لا يبدو التقسيم الجغرافي واضحا وفق حدود أو ملكيات لأراضي محددة، ولكن التقسيم الطائفي هو الذي يمكنه أن يعكس ويؤكد على شكل من أشكال التقسيم الجغرافي الذي قد يتحدد في يوم من الأيام وفق ظروف وشروط خاضعة للوقت وتوازن القوى الإقليمية والدولية.

وكانت عملية تخلي القاهرة الرسمية عن جزيرتي “تيران” و”صنافير” للملكة العربية السعودية مسار طروحات كثيرة بشأن “الحسابات السعودية”، كما أسماها – في عنوان فرعي – الباحث المصري الدكتور مصطفى اللباد في إحدى مقالاته المهمة. فقد رأى اللباد أن السعودية تخوض صراعا إقليميا مريرا مع إيران عبر ساحات متعدّدة، وتحتاج الرياض إلى قوة عسكرية من خارجها لتعديل ميزان القوى مع إيران، ولهذا الغرض فقد حشدت قوات من عشرات الدول الإسلامية للقيام بمناورات عسكرية، كنواة لتحالف تقوده يمكّنها من تعديل موازين القوى الإقليمية.

اللباد حدد ثلاثة عوامل غير مؤاتية للمساعي السعودية:

الأول، تخلّي واشنطن عن دعمها في مواجهة إيران.

الثاني، تغيّر موازين القوى الدولية، بحيث لم تعُد الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي بالسفور الذي كانت عليه قبل سنوات قليلة مضت.

الثالث، تراجع أسعار النفط دوليا، وما صاحب ذلك من تراجع نسبي لمداخيل السعودية ومن ضعف نسبي لقدرتها على شراء رضى شعبها والتأثير في خيارات القوى الإقليمية والدولية.

وبناء على هذه العوامل الثلاث، رأى الباحث المصري أن استمالة مصر إلى الجانب السعودي تبدو أمرا ملحا، بعد أن أثبتت التجربة القريبة أن الدول الإسلامية المؤثرة، مثل باكستان وتركيا، غير مستعدة للتحالف الحصري مع الرياض في مواجهة طهران، وأن أكثر ما تستطيعان تقديمه لا يتجاوز التصريحات الإعلامية حفاظا على علاقاتهما الاقتصادية مع إيران، خصوصاً بعد رفع الحصار الاقتصادي عنها.

ويرى مصطفى اللباد أن الرياض دعمت النظام المصري الجديد منذ عام 2013 ماليا وسياسيا على خلفية الرغبة المشتركة في الإطاحة بجماعة “الإخوان المسلمين”، لكن الأداء المصري في الملفين السوري واليمني لم يكن مرضيا للسعودية. ومع ذلك فقد تعاملت الأخيرة بهدوء مع الأمر. إذ يقول اللباد إنه “نظرا لحاجة النظام المصري الشديدة إلى الدعم المالي على خلفية تراجع سعر الصرف والعجز في الموازنة المصرية بسبب انهيار السياحة وتراجع موارد قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج وغياب الرؤية الاقتصادية واستمرار شبكات الفساد في نهب الثروات الوطنية المصرية من دون رادع، فضلا عن حاجته إلى الدعم السياسي… فقد مثلت اتفاقية تعيين الحدود البحرية فرصة ثمينة للسعودية كي تضرب عصافير عدة بحجر واحد:

أولا، تكرار سوابق تاريخية للمملكة في استثمار لحظات الضعف لدول جوارها العربية لاقتناص مكاسب حدودية، مثلما فعلت مع اليمن في نجران وعسير، ومع الإمارات في “واحة البريمي” و”حقل الشيبة” و”شريط العديد”، ومع الكويت في “المنطقة المحايدة”، والبحرين في “حقل السعفة” وقطر في “مخفر الخفوس”.

ثانيا، انتزاع اعتراف رسمي صريح من القاهرة بقيادة المملكة للعالم العربي، وطي صفحة الخلافات في الملفين السوري واليمني بتسييد وجهة النظر السعودية.

ثالثا، تصفية الحساب التاريخي مع قيادة مصر للعالم العربي خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تحت حكم عبد الناصر، والتكفير عنها بكل ما رافق زيارة الملك السعودي من مظاهر “انبطاح إعلامي” وتسليم نخبوي وسياسي.

رابعا، ربط المساعدة المالية الموعودة باستثمار في جسر يربط البلدين واستثمارات في شبه جزيرة سيناء القريبة بحرياً من المملكة، والمهمة استراتيجيا بسبب موقعها على البحر الأحمر ومجاورتها لدولة الاحتلال الإسرائيلي، بما يجعل الاستثمار السعودي وسيلة ممتازة من وسائل التحكّم، ليس فقط في السياسات المصرية، وإنما أيضاً في محددات الأمن القومي لمصر.

خامسا، وهو الأهم، الانضمام إلى ترتيبات “كامب ديفيد” بكل ما تعنيه من التزامات عسكرية بخصوص أمن البحر الأحمر والمضائق البحرية وتفاهمات سياسية معلنة وليست سرية. وبالتالي إعادة وضع المملكة على قائمة الاهتمام الأمريكي المؤسسي بأدوات أخرى غير النفط والإيداعات المالية في المصارف الأمريكية، أقله ريثما تنتهي فترة ولاية أوباما نهاية العام الحالي.

هذه النقاط الخمس في غاية الأهمية والخطورة، لأنها توضح نسبة كبيرة من الحسابات السعودية المتوزعة على أكثر من محور، على رأسها محور الصراع مع إيران، ومحور الهيمنة على العالمين العربي والإسلامي، ومحور الصراعات الجيوسياسية المرتبطة بمجال الطاقة وطرق نقلها. وهو ما قد يفجر صراعات بين السعودية وتركيا على المديين المتوسط والبعيد. وهو ما يخدم بدوره زيادة تأثير ونفوذ طهران ليس فقط في المنطقة العربية، بل وأيضا في منطقة أسيا الوسطى وأوروبا، ومن ثم تعزيز الدور الإيراني إقليميا ودوليا، خاصة أن طموحات إيران لا تختلف كثيرا عن طموحات منافستها المملكة العربية السعودية، في ما يتعلق بالاستحواذ على الأرضي، سواء كان ذلك في إطار قضايا عالقة على أراضي ما، أو في إطار زيادة تأثير المال السياسي والاقتصادي الإيراني في سوريا ولبنان.

إن الصراع بين الرياض وطهران يتخذ مناح عديدة. لكنه يبدو شكلا من أشكال التواطؤ على إخضاع تلك المنطقة لنسقين مذهبيين وطائفيين كغطاء لعمليات أخرى أكثر خطورة، لأن السعودية وإيران تتجهان عمليا لتقسيم المنطقة تحت رايتين متصارعتين، تحاول كل منهما تقديم خدماتها لقوى أكبر منها، وتسعى لإثبات قدرتها ليس فقط على إخضاع تلك الدول التابعة وتطويعها وقيادتها، بل والحصول على مكاسب تتعلق بتوسيع النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري، والجغرافي أيضا.

وكالة نوفوستي الروسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى