الصهيونيّة والنازيّة… تعاون وتكامل أدوار
الصهيونيّة والنازيّة… تعاون وتكامل أدوار….تطرح الدولة العبريّة نفسها بوصفها حارسة الذاكرة اليهوديّة المرتبطة بالهولوكوست، وتعمل ماكينة دعايتها بلا توقّف لإظهار الحركة الصهيونيّة كأنّها كانت تحاول إنقاذ يهود أوروبا من النازيّة، وشريكة للحلفاء الغربيين في محاربة الفاشيّة عشيّة الحرب العالميّة الثانية. لكنّ توني غرينستاين، المناضل اليساريّ المعتّق الذي ولد لأسرة بريطانيّة من اليهود الأرثوذكس، يرى أنّ ذلك محض تزوير، لا بل قلب تامّ للحقائق. لذلك، قرّر أن يضع كتاباً استهلك من عمره سنوات يوثّق الدور الذي لعبته الحركة الصهيونيّة خلال تلك المرحلة، نقيضاً للرواية الملفّقة التي تبنّاها الثلاثي الإسرائيلي- الأميركي- الألمانيّ. وبالفعل، صدر الكتاب حديثاً من دون ناشر لأسباب معروفة، إذ لا يجرؤ أي تاجر كتب بريطانيّ أو أميركي على نشر ما يناهض سرديات الحركة الصهيونيّة.
الكتاب المثير بكل تفاصيله حمل عنوان «الصهيونيّة أثناء الهولوكوست: توظيف الذاكرة كسلاح في خدمة الدولة والأمّة» (Zionism during the Holocaust: The weaponization of Memory in the service of the State and Nation)، مشيراً إلى أنّ الحركة الصهيونيّة في فترة ما بين الحربين، سعت بكل طاقتها إلى ضمان أن محنة يهود أوروبا تحت بساطير النازيين، لن تصرف الانتباه عن الهدف الرئيس للصهيونية في إطلاق دولة يهودية في فلسطين بعد الحرب. هكذا، عملت مع كل الأطراف، بمن فيهم النازيون أنفسهم، على توظيف تلك العذابات كي يجد أصحابها في النهاية أن طريق النجاة الوحيد المفتوح أمامهم ينتهي في القدس، لا في أيّ مكان آخر. يقول غرينستاين إنّ مؤتمر بلتمور (الولايات المتحدة) الصهيوني في أيار (مايو) 1942 الذي صيغت فيه للمرة الأولى المطالبة باعتراف العالم بدولة يهوديّة في فلسطين تحديداً، لم يرد فيه أيّ ذكر لمحنة يهود أوروبا، لا الضحايا، ولا اللاجئين. ولم يُطرح الموضوع أصلاً للنقاش: «لم يكن الأمر ببساطة على جدول الأعمال». هناك اقتباس مشهور جداً عن بن غوريون من 9 كانون الأول (ديسمبر) 1938، قاله في خطاب ألقاه أمام «حزب عمال أرض إسرائيل» اليساري بعد شهر على «ليلة الكريستال»، وهي مذبحة نازية في ألمانيا قُتل فيها ما يقرب من 100 يهودي وأُحرق كل كنيس يهودي في البلاد تقريباً وتم نقل ثلاثين ألف يهودي إلى معسكرات الاعتقال». جاء في الاقتباس: «إذا كنت أعرف أنه سيكون من الممكن إنقاذ جميع الأطفال اليهود في ألمانيا من خلال إحضارهم إلى إنكلترا، ونصفهم فقط عن طريق نقلهم إلى أرض إسرائيل، فسأختار البديل الثاني، لأننا يجب أن نفكّر ليس فقط بحياة هؤلاء الأطفال، ولكن بالأهم: تاريخ شعب إسرائيل». تصفيق».
حتى بعد انتهاء الحرب، ووصول الجنود السوفيات إلى معسكرات الاعتقال النازية التي شهدت عذابات اليهود، ضمن غيرهم من ضحايا النازيين والفاشيست، فإن الحركة الصهيونيّة لم تجد نفسها معنيّة بما اصطُلح على تسميته حينئذ بالهولوكوست. وحتى في الدولة العبريّة نفسها، فإن ضحايا النازية من اليهود اعتُبروا عاراً على التاريخ اليهوديّ، ونقيضاً تاماً للمسادا (المتطرفون اليهود الذين ــ وفق رواياتهم ــ فضّلوا الانتحار على التسليم للرومان في قلعة المسادا 74 م). لقد كان يُنظر إلى ضحايا الهولوكوست اليهود على أنهم نموذج لكل ما هو سيّئ في يهود الشتات الذين «سيقوا مثل الخراف إلى مذبحهم»، وبالكاد تمّ الحديث عنهم في مناهج تدريس التاريخ في الدولة التي أسّستها الصهيونيّة في فلسطين. ينقل غرينستاين عن ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء إسرائيلي، قوله: «لديّ شعور حقيقيّ بالاشمئزاز من الحياة اليهودية في الشتات، وذلك التناقض الصارخ بين الأمة السليمة المتحدرة من اليهود الذين يتجمعون في أرض إسرائيل، وذلك العجز المشوّه للكتلة الجبانة من اليهود الذين بقوا في أوروبا ليتم ذبحهم».
ومن الجليّ أنّ الحركة الصهيونية خشيت أيّ حلّ لمسألة اللاجئين اليهود، لا يتعلق بترحيلهم إلى فلسطين، إذ إنه في حال قبول دول أخرى مثل بريطانيا وأستراليا والولايات المتحدة اللاجئين اليهود من ألمانيا أو بولندا، فما الداعي عندها لوجود دولة يهودية في فلسطين؟ لقد كان ذلك بمثابة كابوس وخطر استراتيجي، ولذلك بذلت الأذرعة الصهيونيّة جهوداً هائلة لدى حكومات الغرب طوال فترة الحكم النازي لمنع قبول اللاجئين اليهود، وهي اعتبرت «مؤتمر ايفيان» في عام 1938 الذي دعا إليه الرئيس الأميركيّ فرانكلين دي روزفلت لمناقشة أوضاع اللاجئين اليهود، بمثابة تهديد حاسم للمشروع الصهيوني.
يزعم غرينستاين أن الهولوكوست لم تكتسب أي أهمية في الدعاية الإسرائيلية أو الصهيونية إلا بعد محاكمة أدولف أيخمان (في عام 1961) الذي اختُطف من الأرجنتين واقتيد إلى الكيان العبري حيث أُعدم. كانت عمليّة الاختطاف والمحاكمة أقرب إلى مسرحيّة صورية نُفّذت بعناية لأغراض البروباغندا. ربما لم يكن أيخمان بريئاً، وقد يتحمل قدراً من المسؤولية عن جانب من الهولوكوست، لكنّ القضاة الإسرائيليين كما لو كانوا يحمّلونه المسؤولية الكاملة عن الهولوكوست، ويبرئون ضمنياً أدولف هتلر والقيادات النازية العليا. تلك المحاكمة، كما يقول الصحافي الإسرائيلي توم سيغف، لم تكن حقاً تتعلق بأيخمان، بقدر ما كانت مهمة للدولة العبريّة من أجل محو فضيحة رودولف كاشتنر التي كُشفت (خلال المداولات القضائيّة لمحاكمة مالكيل غروينوالد) عن تآمر صريح لقيادات الحركة الصهيونيّة مع النازيين. كانت الحكومة الإسرائيلية قد رفعت دعوى عام 1950 ضد غروينوالد بتهمة التشهير بعدما اتهم كاشتنر علناً بالتعاون مع النازيين، علماً أنّ كاشتنر كان الزعيم الصهيوني في هنغاريا خلال الحرب العالمية الثانية، وفي «إسرائيل»، وعضواً بارزاً في «حزب ماباي». وجدت المحكمة وقتها أن غروينوالد قال الحقيقة، وبرّأته من تهمة التشهير، لكنّها ضمنياً أدانت كاشتنر، ومعه الحركة الصهيونيّة برمّتها. لم ينجح اغتيال كاشتنر لاحقاً في تغييب الدور القذر الذي لعبته قيادات الصهيونيّة وقتها ضد يهود أوروبا. لقد كان تصوّر هؤلاء عشيّة الحرب (العالمية الثانية) وأثناءها أن المذبحة اليهودية يمكن أن تكون بمثابة رافعة سياسية تخدم الأغراض السياسيّة للصهيونيّة، وأنه، كما نُقل عن بن غوريون، «من مصلحتنا استخدام هتلر لبناء دولتنا». ولذلك، فإن ماركة الهولوكوست ببساطة لم تكن رائجة، واتُّهم بالشيوعية كلّ مَن يتحدث بشأنها ـــ وهو أمر مشين في أزمنة الخوف المكارثيّ في الخمسينيات ــــ لأنها لم تتوافق بداية مع المصالح الإمبريالية الأميركيّة في تأسيس دولة يهوديّة في فلسطين.
لكن في وقت لاحق، اكتشف الصهاينة القوّة الدعائيّة الهائلة الكامنة في فكرة الهولوكوست، فتلاقت جهود إسرائيليّة وأميركيّة وبريطانيّة وألمانيّة على تحويل مأساة اليهود وغيرهم خلال الحرب الكبرى إلى سلاح ثقيل للإمبريالية، ودرع لإقصاء كل من يعادي الدولة العبريّة. لقد أعيد تدوير الضحايا اليهود لخدمة تدعيم تحصينات قلعة إسرائيل المزروعة في قلب الشرق، وأصبحت الدولة العبريّة وكيل تحصيل تعويضات عنهم. وهكذا أبرم قادة ألمانيا الجدد، الذين ربّتهم المخابرات المركزيّة الأميركيّة، صفقةً للتعويض عن ذنب النازيين مقابل إعادة استيعاب ألمانيا (الغربيّة) في التحالف الغربيّ الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفياتيّ، تضمنت تسليح الجيش الإسرائيلي وتزويد تل أبيب بالغواصات والتكنولوجيا النووية ومليارات الدولارات. لقد كانت الهولوكوست بهذا المنطق جيّدة لمصلحة المجهود الحربيّ الغربيّ خلال الحرب الباردة، وأصبحت حجر الزاوية في إعادة صياغة الرواية التاريخيّة حول الحرب العالميّة الثانية من صراع إمبرياليات متنافسة، استكمالاً لذات الصراع في الحرب العالمية الأولى، إلى مقارعة بين تحالف الديمقراطيّات والفاشيست الأوغاد.
في هذه السرديّة التاريخيّة الملفّقة، ينقسم العالم إلى أخيار وأشرار. ولذلك، فإن النازية مجرمة ويتم التشنيع بها بسبب الهولوكوست، لكن مذبحة التجويع البريطانيّ المتعمّد للبنغال في عام 1942 حيث قضى خمسة ملايين شهيد بأوامر مباشرة من «البطل القومي الرمز» ونستون تشرشل لا يكاد يسمع بها أحد.
يشير غرينستاين إلى بعض جوانب من مساحات إعادة صياغة تلك السرديّة في ما يرتبط بالحركة الصهيونيّة مثل دور الحركة في إطار المقاومة اليهوديّة ضد النازيين، إذ يروّج لمشاركة منتسبي الصهيونية في تنفيذ أعمال معادية للنازيين على أكثر من جبهة، لكنّ الحقيقة أن الأفراد القليلين من أعضاء الحركة الذين قاتلوا فعلاً، فعلوا ذلك تمرداً على التعليمات التي تلقّوها من قياداتهم بعدم المشاركة في المقاومة، وكان عليهم، بدلاً من ذلك – وفق التعليمات – أن يحاولوا الوصول إلى فلسطين حيث الحاجة إليهم ماسّة.
لقد ترأّس الجاليات اليهودية عبر أوروبا خلال الحرب أعضاء من الحركة الصهيونية، وهؤلاء تعاونوا – أو أُجبروا على التعاون – مع الحكومات التي هيمن عليها النازيون في جمع الذهب والأثاث من منازل اليهود الفارين، وإعداد قوائم بأسماء المناسبين لمعسكرات العمل. ولذلك، فإن مشاعر معظم الجماهير اليهودية تجاه الفكرة الصهيونية كانت سلبيّة للغاية. كان هؤلاء الصهاينة خونة لأهلهم وجنوداً لمشروع إمبريالي ليس يهودياً أصلاً، بل نتاج مطابخ المصنع الاستعماري الصليبيّ المتطرّف في الفضاء الإنغلو ساكسونيّ. حاول بعض الناشطين الأوروبيين اليهود الذين هربوا لاحقاً إلى «إسرائيل»، فضح تلك الممارسات الخيانية لقادة الحركة الصهيونيّة، إلا أن أصواتهم كُتمت وزوّرت مذكّراتهم المنشورة، وأخفيت خطاباتهم العلنية من الأرشيف.
ومع ذلك، فإن أكبر تزوير يبقى هو إعادة توظيف الهولوكوست للأغراض السياسيّة. لقد شرعت إسرائيل – دولة الحركة الصهيونيّة – باستخدام الهولوكوست بصفاقة ضد أعدائها. تحدث أبا إيبان، وزير الخارجية الإسرائيلي السابق، مثلاً عن الخط الأخضر بين الضفة الغربية وحدود «إسرائيل» لعام 1948 على أنه «حدود أوشفيتز». أما ما علاقة الفلسطينيين الضحايا بالهولوكوست، فذلك ليس بالأمر المهم. لاحقاً، تم اختطاف مصطلح معاداة السامية (القروسطيّ) للخلط بينه وبين معاداة الصهيونية التي هي ظاهرة حداثيّة بامتياز. إن التعريف الصهيوني لمعاداة السامية الذي يروّج له التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست اليوم ويتبناه الإعلام الغربيّ وحكومات وأحزاب غربيّة لا علاقة له بالعداء لليهود كيهود. لقد أصبحت معاداة السامية اليوم تهمة معلّبة جاهزة تُلقى في وجه كل معارضة لما تفعله إسرائيل من جرائم بحق الفلسطينيين وجيرانها العرب.
أهميّة هذا الكتاب للسجلّ التاريخيّ لا جدال بشأنها، ومعرفة غرينستاين الموسوعيّة بموضوعه وقدرته على حشد التوثيق، تمنحانه مصداقية لا غبار عليها. لكنّه في الإطار العربيّ يكتسب أهميّة استثنائيّة كبرى كأداة لفهم منهجيات العدو الصهيونيّ وتفكيك ادّعاءاته ودحض حججه، وأيضاً تعرية كل تلك المبادرات التي يتقدّم صهاينة العرب المرتبطون بأنظمة السلالات الحاكمة للتطبيع مع الكيان الشاذ أو القبول بمشاريع – تعدّدت ألوانها – لدولة واحدة مع المستوطنين الغزاة. ولذا، لا بد من ترجمته إلى العربيّة بشكل عاجل، ونشره على أوسع نطاق.