خدعة مقولة “العالم الحر” : دراسة نقدية في التناقضات السياسية والإيديولوجية”.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، برز مفهوم “العالم الحر” ليشكل جزءاً مهماً من الصراع الإيديولوجي بين الكتلتين الشرقية والغربية.
قادت الولايات المتحدة تحالف الدول الغربية التي عرّفت نفسها بأنها “العالم الحر”، وهو مصطلح يوحي بالتفوق الإيديولوجي والمبدئي لدول الغرب الديمقراطية على خصومها الشيوعيين في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية.
كان الهدف الظاهر هو الدفاع عن قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان في مواجهة الأنظمة الشمولية. لكن، مع مرور الوقت، بدأت تتكشف تناقضات هذا الخطاب، حيث استخدم هذا المفهوم بشكل انتقائي لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية.
إن المقولة التي كانت تروّج على أنها دعوة إلى التحرر والديمقراطية، كانت في الواقع غطاءً لتبرير تدخلات الدول الغربية في الشؤون الداخلية لدول أخرى.
“العالم الحر” لم يكن يتصرف دائماً وفق المبادئ التي كان يدّعي الدفاع عنها.
وهنا يجب إلقاء الضوء على الأبعاد المتعددة لخدعة هذه المقولة، واستعراض كيف أن القيم التي يزعم الغرب الدفاع عنها قد استُخدمت في بعض الأحيان لخدمة مصالحه الخاصة، مما يعكس ازدواجية واضحة في الخطاب والممارسة.
برز مفهوم “العالم الحر” في سياق الحرب الباردة، حيث كانت المواجهة الكبرى بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة، والاتحاد السوفيتي وحلفائه من جهة أخرى. تم استخدام “العالم الحر” كوسيلة لتبرير الهيمنة الغربية على النظام العالمي وتوجيه الأحداث السياسية لصالحها.
كانت الديمقراطية وحقوق الإنسان أدوات خطابية هامة في هذا السياق، لكن الواقع كان مختلفًا إلى حد كبير.
في الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة تقدم نفسها كمُدافع عن الديمقراطية وحرية الشعوب، كانت تدعم أنظمة ديكتاتورية واستبدادية إذا كانت هذه الأنظمة تخدم مصالحها الاستراتيجية أو الاقتصادية. على سبيل المثال، دعمت واشنطن أنظمة استبدادية في أمريكا اللاتينية مثل نظام أوغستو بينوشيه في تشيلي، الذي أُدين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. كما دعمت الأنظمة العسكرية في أمريكا الوسطى، حيث تورطت في عمليات قمع وحشية بحق الشعوب التي كانت تناضل من أجل الديمقراطية والحرية الحقيقية.
في الشرق الأوسط، دعمت الولايات المتحدة أنظمة استبدادية وأشرفت على انقلابات أطاحت بأنظمة ديمقراطية فقط لأنها كانت تخالف مصالحها. إيران في 1953 مثال بارز، حيث دعمت الولايات المتحدة انقلابًا أطاح بالحكومة المنتخبة ديمقراطيًا لرئيس الوزراء محمد مصدق، وأعادت الشاه محمد رضا بهلوي إلى السلطة الذي أسس نظاماً استبدادياً. هذه الأمثلة تؤكد أن “العالم الحر” لم يكن دائمًا مخلصاً للقيم التي يزعم الدفاع عنها.
من أبرز سمات “العالم الحر” في العصر الحديث هي التدخلات العسكرية تحت ذريعة “نشر الديمقراطية” و”تحرير الشعوب”. المثال الأبرز هو غزو العراق في 2003. قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بتبرير هذه الحرب على أساس أن النظام العراقي يشكل تهديدًا للأمن العالمي وأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، ولكن سرعان ما تبيّن أن هذه الادعاءات لم تكن قائمة على أدلة حقيقية.
في الواقع، كان الهدف الأساسي للغزو هو تحقيق مصالح اقتصادية وجيوسياسية. أدى الغزو إلى تدمير بنية العراق التحتية، وإثارة الفوضى وعدم الاستقرار في المنطقة. وفي النهاية، لم يجلب الغزو الديمقراطية أو الحرية للعراقيين، بل تسبب في مقتل مئات الآلاف من المدنيين وخلق بيئة مناسبة لنشوء الجماعات الإرهابية مثل تنظيم “داعش”. في هذا السياق، يمكن القول إن مفهوم “العالم الحر” استُخدم للتغطية على الطموحات الاستعمارية الحديثة.
في أفغانستان، قُدم التدخل العسكري كجزء من “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. رغم أن الهدف المعلن كان القضاء على تنظيم القاعدة، إلا أن العملية استمرت لعقدين من الزمن، وشهدت فشلًا واضحًا في تحقيق استقرار أو ديمقراطية مستدامة.
انتهى التدخل الغربي بخروج فوضوي، تاركاً البلاد تحت حكم طالبان في وهي المجموعة التي كان الهدف الأولي هو القضاء عليها.
هذه التجارب تظهر كيف تم تبرير التدخلات العسكرية باسم الحرية، بينما كانت نتائجها الكارثية تتناقض تماماً مع هذا الشعار.
الازدواجية في التعامل مع حقوق الإنسان
إن التعامل مع حقوق الإنسان ضمن خطاب “العالم الحر” يتسم بازدواجية ملحوظة.
الدول الغربية غالباً ما تنتقد دولًا مثل الصين وروسيا لانتهاكات حقوق الإنسان، وهو ما يمكن تبريره إلى حد ما، لكن هذه الانتقادات تفقد مصداقيتها عندما نلاحظ كيف يتم التغاضي عن انتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الدول الحليفة للغرب.
على سبيل المثال، تتجاهل الدول الغربية للانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان في مناطق عديدة في العالم بشكل عام وفي الشرق الأوسط بشكل خاص حيث يتجاهل الغرب الانتهاكات التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، رغم دعوات دولية متزايدة لمحاسبة هذه الانتهاكات.
هذا التناقض يظهر أن حقوق الإنسان تُستخدم كأداة ضغط سياسي عندما يخدم ذلك المصالح الغربية، ويتم تجاهلها عندما يتعلق الأمر بحلفاء استراتيجيين. هذا التصرف يزعزع ثقة المجتمع الدولي في مصداقية العالم الحر وتأكيده على الدفاع عن الحريات.
أما بالنسبة إلى العالم الحر والتضليل الإعلامي فالإعلام دورًا حيويًا في تشكيل صورة “العالم الحر” وترويج روايات معينة لتبرير السياسات الغربية.
والإعلام الغربي يعتمد بشكل كبير على سرديات تُضخم من خطر الأعداء الأيديولوجيين وتُبرر التدخلات العسكرية والسياسية. على سبيل المثال، تم تقديم غزو العراق وأفغانستان كحروب من أجل “تحرير الشعوب”، بينما تجاهل الإعلام بشكل كبير الجرائم التي ارتُكبت بحق المدنيين والدمار الهائل الذي خلفته تلك الحروب.
من خلال التحكم في السرد الإعلامي، نجحت الدول الغربية في إخفاء العديد من التناقضات.
فالإعلام الغربي غالبًا ما يعزز فكرة أن “العالم الحر” هو المدافع الأوحد عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، بينما في الواقع، تم استخدام تلك القيم بشكل انتقائي لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية.
وفي ختام سريع لما تمت الاشارة اليه واستعراضه أعلاه ومن خلال يتضح أن مقولة “العالم الحر” ليست سوى خدعة سياسية استُخدمت لتحقيق أهداف استراتيجية وجيوسياسية. فالدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة، قد استغلت هذا المفهوم لتبرير تدخلاتها العسكرية وتجاهلها لحقوق الإنسان في مناطق معينة من العالم.
وأصبح من الواضح والجلي بمكان أن الازدواجية الغير عادلة في تطبيق معايير الحرية وحقوق الإنسان تبرز التناقضات الصارخة بين ما تدعيه هذه الدول وما تمارسه فعليًا.
في ظل التحولات الجيوسياسية الحالية، قد تكون هذه المقولة في تراجع، إذ تبرز قوى عالمية جديدة مثل الصين وروسيا لتشكل تحديًا لهذا الخطاب.
ويجب على العالم من خلال المحافل والتفاهمات الدولية أن يعيد تقييم المفاهيم التقليدية المتعلقة بالحرية والديمقراطية، والاعتراف بأن استخدام هذه المفاهيم لأغراض سياسية يمكن أن يكون ضارًا بقدر ما هو نافع .
وماعلينا في نهاية هذا المقام الا نصل إلى دراية ان مقولة العالم الحر ماهي إلا كلمة حق يقصد فيها باطل وستبقى حصرية في دور السينما .
بوابة الشرق الأوسط الجديدة