العثور على الكتاب حياً…. لا أزال أذكر يوم حوصرت في القاعة الزجاجية في مبنى وزارة الإعلام والسياحة في شارع الحمراء، بالقصف. لا شيء محسوم في الحرب الأهلية سوى ما حدث أكثر من مرة في لبنان. أن لبنان بلا ثقافة، لبنان مخنوق. إدارة قتله بإبعاده من فعل العكس. عكس إشاراته، إتسامه بعلاماته الثقافية.
لا أزال أذكر تهديد القذائف ما لم يثر خوفي، حين وجد أصحاب الرؤى في معرض الكتاب العربي، أعرق المعارض وأدومها في مبادئه. مبادئ لا تقوم على الألغاز، تقوم على اليقين. أن المعرض موضع من مواضع، لا نظير لها وهي تهز ما لا يتعين أن تثبته للآخرين، قدر إثباته لنفسها. أن جوهر الأمر هو العثور على الكتاب حياً. أن لبنان لا ينشر فقط. أن لبنان يقرأ بقدر ما ينشر. يقرأ أكثر من ما ينشر، نشر يميل إلى الطبائع التأملية في أحوال الثقافة. نشر، لا يجرد نفسه من التفاصيل وهو يقود الجمهور إلى الإحساس بأن كتاب بيروت كتاب يمضي قدماً، وأن المعرض أعرض من معرض. هذا شعار استغله النادي الثقافي العربي لعام واحد، ثم تركه على طريق وضع اليد على سلوغون آخر. ثمة معارض أخرى ميتة على الرغم من أنها تظهر حية، لأنها لا تملك لا الأماكن، لأنها لا تملك التواريخ كما يملكها معرض الكتاب العربي.
وهو معرض لا يلملم، لأنه يدفع إلى العثور على الأشياء، حين تقف هيئته على كراسات بداياته السنوية موسعة الهوامش، بحيث تضحي مفيدة حتى إذا طرحها الآخرون. ذلك أن المعرض يقوم على روح ديمقراطية. الديمقراطية حكم الشعب لنفسه. يرفع النادي الثقافي هذه الروح في معرضه السنوي، بعيداً من أحكام النخب وحدها. تقص النخب قصصها. ولكنها لا تحضر بقصصها إلا على لزوم حضور القصص. هكذا، يقوم تبادل الرسائل بطرق مكشوفة ومكتومة بدرجات لا تخفى، بين المجموعات الحضرية. لا تبذل جهود عظيمة لإقامة الكلية الديمقراطية في معرض الكتاب العربي أو معرض بيروت للكتاب لأن الديمقراطية في المعرض ديمقراطية لا علاقة لها بالتصور فقط. إذ تقف على الممارسة بعد التماع الذهن.
لكل مساحته في معرض الكتاب. لا ينقصه الترفيه لأن الترفيه بعيد من قواعده. المساحة اختبار لأنها ملك الدار المُستّأجِرة، تختبر فيها برهنة قوة النشر، مداه، لا الخضوع المطلق له. مساحات تضع يدها على تصور الدار للنشر من العنوان إلى مواجهة التحديات المطروحة على الوضع العام دفعة واحدة. هذا ما حدث هذا العام، سواء على صعيد المنظمين والناشرين. دور المنظمين دافع إلى العثور على دور الناشرين. ذلك أن ثمة دوافع للنشر. أحدها، المشاركة في معرض الكتاب. وهو معرض لا يقوم، لم يقم يوماً على الإنتقام. بالعكس. قام دوماً على الحسم. حسم موقع الكتاب. حسم موقع بيروت على الخارطة العربية والعالمية، إذ أن معرض بيروت يعتبر من طواقم العاملين على سفينة المعارض في العالم. إنه يرتب للأسرة مساحتها المشتركة (رياض نجيب الريس، الآداب، الساقي، نلسن، التنوير، الشروق، الجديد، الفارابي…). هذه قضية مشقة مثيرة للقلق والإهتمام لأنّ سطح السفينة يقوم على التنوع. لن يقوم سوى على التنوع، لا على طلاء سطح السفينة. يقدم المعرض الناشرين كأسرة، لا كعاملين في أداء الخدمات فقط.
دورٌ أكثر إثارة للإهتمام، بحيث يفيض بالإخلاص. قراءة الأمر، هو طريق من طرق يمكن البدء بالسير بها للوقوف أمام مفهوم ربط الناس بالمفاهيم من خلال ربطهم بالأماكن. لم يتردد في متابعته أحد حتى في الحرب الأهلية. كتب كافية لدفعهم إلى الوقوف وسط الواجهات. هذا جزء. الجزء الأهم ، هو أن تنتمي إلى الحاضر من خلال الإنتماء إلى الذاكرة، الماضي لأن مراحل المعرض لم توصف، حتى إذا وصفت حضر، لأنّ مراحل المعرض نقل العموم من مرحلة إلى مرحلة، بعيداً من الغرق في بريكات الماء الداخلية. هذا لا يعني أن المعرض ومنظميه يداومون في قاعات المراقبة النهارية والليلية لحكايا السياسة والفكر والعلوم. سوف يرتكب من يعتقد أن المعرض يدور على نفسه خطأه الأعظم، لأن رجال المعرض وسيداته، من المنظمين والمنظمات (الدكتورة سلوى السنيورة وفريق المعرض) لا يرون في الأمر طرفة، ذلك أنهم الأدرى بأن معرض النادي الثقافي العربي ، معرض حياة طالعة من الحياة السياسية . حيث دارت فكرة قيام النادي حول غرف المحركات السياسية في العالم العربي .
قوميّون عرب ، اجتمعوا في حجرات، تشبه الواحدة منها ضرس العقل، على الحلول في الفكر العربي الموحد في مراحل تناثر الدم في أرجاء العالم العربي، وسط الصراع العربي الإسرائيلي. اجتمع المجتمعون في رهافة مذهلة على قضية فلسطين وقضايا حركات التحرر في العالم العربي والعالم. لا يزال المعرض وفياً لرمايات مؤسسيه الأول. لا يزال صديقهم، حين امتلأت جباهم بالعرق الغزير. وحين ارتاح بعضهم في وادي النوم أو وجدوا في حياتهم وأعمالهم الأخيرة سداد حياة بعيدة من الألقاب. اندماج بالعناصر البعيدة من المشارب الوضيعة، بشهيات مفتوحة ثم الإنكفاء بعد تسليمهم الخبرة والعبرة إلى من حلوا حلولهم في محلهم.
الكلام على المنظم، على النادي الثقافي العربي، لأنه ناد لم يُعَرِّض وجهاً للإنهيار لصالح وجه آخر. وجوه شابة، لا مترهلة في مسرح الطفل والفن التشكيلي والأدب السياسي والتصحيف العالي فوق الرؤوس من صدقه . لن يساور أحد الشعور بالإذلال ولا بالوحدة . لا توريق ولا تغليف مفضفض. لا رسائل مازحة بالكلام على كاترين داستي ولا على الآخرين في طروحات الحداثة في مسرح الأطفال. هكذا ، حين حوصرت بالقذائف في معرض الكتاب في القاعة الزجاجية لم أجذب يدي إلى رأسي لكي أحميه. لن استجمع قواي لأنّ رفوف المؤلفات الملونة قوة معجزة. وهي معجزة سوف تكافح لكي تصبح معجزة عامة. لم أخش زمجرة القذائف الوحشية المندفعة في الهواء، لأنني وجدت، بدون أن أجد، أن العواصف الضارية لن تهزم المعرض ولا الموجودين في المعرض لأن الكتاب يلف، بحيث لا تأمل قذيفة بأن تهوي على حين غرة لكي تلطم هذا الصدر العظيم. وهو صدر لا يزال يصف المُؤَلٍف والمُؤَلف بالأمان. معرض الكتاب في البيال القديم، «سي سايد» في الراهن، دائماً على الواجهة البحرية لبيروت، لا يزال معرض ذاكرة لا تشاجر، معرضاً يومئ بالمواقف الطيبة منذ المدخل.
معرض تدور الرياح حوله، تضربه الرياح ولكنها لا تهزمه. إنه صاحب كلمة، صاحب كلمته. كلمة على منصة قبطان يخطو خطواته لكي يؤمن منصاته لركاب السفينة. لن يجد أحدهم ماء بارداً في حسائه الساخن. الناشرون، منظمو الندوات، المنتدون، موقعو كتبهم، الشارون، الجائلون، المستأنسون بالتجوال، البشر الحقيقيون بأعداد لا يستطيع أحد تقديره لأن البشر لا بأعدادهم وحدها. لأن البشر بتفاصيلهم. وهي تبدأ منذ لحظة الإلتحاق.
لحظة تدعهم يعرفون أن المعرض لا جناح فقط، بل في نقاط تفرده. وسيط بلاغي. لا وسيط عادي. ولا أداة ناشفة. لا وجه حصر في المعرض. لأنه معرض يرجع إلى نفسه في طريقه إلى تجديد نفسه. الكلام على بيروقراطية كلام متأرجح بين الواقع والغموض. ثم إن البيروقراطيين يمتلكون جداولهم المختلفة. في المعرض حوكمة لا حكم. ثمة بون شاسع بين المفهومين.
وحين جرى الإعتقاد بأن المعرض وقع في «الإنتفاضة الشعبية» أو في أعوام الكورونا أوقع نفسه في الشك. المعرض كغيره لن يستغرق في إنجاز أعماله إلا بمقدار تعقيدات الوضع أو خلاف ذلك. تعقد الوضع. إذاك، وجدت المجموعة أن لا رسالة توحي بالمعنى الحقيقي للحياة. إذاك، لم يقم المعرض لأن البلاد ابتعدت من التأقلم مع المستجدات. وبما أن المعرض معرض بيروت، معرض لبنان والعالم العربي، اختفى من الضوء في ضوئه في مراحل استهلال الحياة في مراحلها الفضلى.
المعرض اليوم في دولته الخامسة والستين. صحيح أن لا صور إضافية، لأن البلاد توجهت إلى محاور اهتمام أخرى مع الأزمة الإقتصادية والأزمة السياسية والأزمة الإجتماعية وعدم القدرة على إنجاز الأعمال العادية مع التضخم وانهيار المؤسسات. لكن المعرض لا يزال يمتد على أفئدة اللبنانيين والعرب . لا يزال يمتد كمؤسسة لا تدور على ظهر لقطات سياحية. لا يزال يخوض غمار الصراع برقي موجه إلى الأصدقاء في مختلف أنحاء العالم. لا دخول غاضباً. وصول إلى مرحلة معينة.
خمسة وستون عاماً، و قد تم العثور على الكتاب حياً ولا يزال المعرض فتياً. لم يقع في العجز ولا في الشيخوخة. معرض لا يستخدم مطرقة بالكلام مع الآخر، مع الجمهور. معرض الأسماء والشؤون غير المنقطعة عن سياقاتها. معرض الحكومات، معرض الناشرين، معرض المؤلفين، معرض الجمهور. معرض الصفات المتجسدة لا المنداحة ولا المنزاحة. معرض التركيز لا الضجة. معرض المزايا لا الإفتراض. معرض اللقاء لا الإنقضاء. هنا تعد الآلات. هنا تعزف الأنغام. لا تنقل المشاهد إلى المنازل.
لكنها تبقى. لا يزال المعرض يتبادل الصداقة مع من وسموه بالتبدلات الحديثة، من الرئيس رفيق الحريري إلى رياض نجيب الريس، من سهيل إدريس إلى الرؤساء من آل الصلح، الرئيس فؤاد السنيورة، الرئيس نجيب ميقاتي. لم يعش المعرض في صندوق ضيق. بالعكس، واجه الصعوبات وتخطاها. وصوله إلى هذه المرحلة شيء يحسب، بإصلاحه أطراف الإشتباك المحلي وأطراف الصمت. حين يشرع في الدوران، نكتشف مزايا المعرض المبشر. معرض مبشر وسط نذر. هذه قضية لا توضع بين هلالين. يكفي تلمس الأعمال التمهيدية والإنطلاق كي ندرك طبيعة الصلات بينه وبين من لا يريد أن يراوح في مكانه بشكل أو بآخر لذا فقد تم العثور على الكتاب حياً .
صحيفة الأخبار اللبنانية