العقاب السعودي والصراع على «سوريا الصغرى»

تملك الحرب مفاتيح أكثر من فترة السلم. الحرب متصلة بالقتل. السلم يتغذّى من الحياة. الديبلوماسية في الحرب معركة من دون قفازات ولغة مواربة. يسقط النفاق في الحرب، يزدهر الصدق الجارح. المسألة شكسبيرية حادة: «أن نكون أو لا نكون». للسلم نمط من الليونة والتورية يقتضيها منطق البقاء وهدف استبعاد المواجهات… ما الذي تفعله السياسة في الحرب؟ هو الانخراط التام في الصراع. البحث عن حلول يأتي كمحصلة للمعارك، ولو طال أمدها وليس نتيجة المحادثات. السلام وفوهة الحرب توأمان.

لا يبدو السلم قريباً، لا أحد يتجرأ على ضرب مواعيد للنهايات الحتمية، ذات سنة أو ذات عقد أو أكثر. سوريا هي المرمى، والرماة من كل حدب وصوب. من ظنّ نفسه بعيداً عنها، لسعه حريقها. من اشترك في تأليف «أبطالها» ومدِّهم بمدد الحرب، طالته شظاياها. لا يسلم أحد من حرب «شبه عالمية» في سوريا. بلغت الكلفة حد السفك في شوارع باريس واسطمبول وأنقرة و… بيروت طبعاً، الثمن يسدَّد بالدم. لا حياد في حرب، إذا أغرتك بانتصار قريب، أو انتصار تريده غلبة على عدو بعيد أو خصم قريب. و «إن اللبيب من الإشارة يفهم».

تركيا، رغبت في أن تكون «المايسترو» الذي يمسك عصا إدارة العصيان على النظام في سوريا. ها هي تلملم الأشلاء. لا بدّ من شفقة وحسرة على أبرياء يسقطون بلا ذنب. لا بدّ من سؤال عن السبب. تركيا تدفع ثمن قيادة «الأوركسترا» ضد «أعدائها» الذين اصطفتهم: الأكراد والنظام وربما «داعش» وشقيقاتها.

ما كان ممكناً تفادي الحرب عندها. هذا قليل من كثير ارتكبته تركيا.

المملكة، «ذات العزم»، ذات وزن أيضاً. الاستخفاف بها خطأ سياسي قاتل، واستخفاف المملكة بخصومها وأعدائها، خطأ ميداني مستحَقّ. الحرب في اليمن ليست نزهة عسكرية جوية، «الأرض بتتكلم يمني». الحرب، بالوكالة، في سوريا، تتحوَّل إلى حرب بالإحالة. عادل الجبير، وزير خارجية بثياب الميدان. ديبلوماسيته جبهة مستعرة. خسائره يمكن تعويضها بحلفاء. لكن الحلفاء يتخلّفون… انخراطها بقيادة الحروب، لم يسجل بعد انتصاراً. إخفاق في اليمن، تراجع في سوريا، تخلٍّ أميركي، تخوُّف أوروبي. هؤلاء، ليسوا مع السعودية في حربها ضد إيران أينما كان. علماً، أنهم ليسوا مع إيران، لأنهم معها، سوقاً لسياسات مالية وشراكات اقتصادية والتزامات دولية.

تحتفظ المملكة بـ «أصدقاء» حلفاء. لها عليهم فضل «الإكراميات»، والمكرمات مجزية. «وهابيتها» ليست مجانيّة أبداً. البنية التحتية الداعمة لتوسّع نفوذ الوهابية، وصلت إلى تأمين نصاب أنظمة وأحزاب وتيارات…من زمان، زرعت المملكة سياسة الشراء للولاءات. كان الحصاد وفيراً: كلمة السعودية تُطاع. تقولها مرة واحدة، والمطلوب: «سمعاً وطاعة». غير أن الشعوب ليست رهن «الوهابية السياسية». إذاً، عليها أن تدفع الثمن.

المملكة تدفع أثماناً باهظة. المعركة تفترض عدم تهاون «الحلفاء» و «الأصدقاء». وفي لبنان أصدقاء لها، اختصاصهم الأول عدم إغضاب «الأخ الأكبر»، والسعي إلى الاصطفاف، قبله، معه… لبنان هذا خارج السرب. هو ليس واحداً ليمتثل أو ليرفض. هو مزدوج، ومشتبك، بحرية فائضة. منه مَن هو مع المحور الإيراني، منذ زمن التأسيس انخرط بشكل متدرج في الصراع. وهو موجود بكثافة قتالية أو إعلامية، وبحمولة مذهبية، في ساحات المواجهة في كل من سوريا والعراق واليمن والبحرين. وليس من المنطق أبداً أن لا يدفع الثمن.. لا عفو في الحروب. «المكرمة» السعودية، ليست مجانية. مجنون من يدّعي العكس. هذه «مكرمة» بثمن، تسعى المملكة، ليكون باهظاً جداً، لا يستطيعه لبنان… لبنان ليس واحداً أبداً. منه ما هو مع المحور السعودي، من زمان انهيار الناصرية والعروبة (ليس عروبة الأنظمة التي كانت في زمن صعود القومية، التي حوربت بالحلف الإسلامي بقيادة المملكة ذاتها). هذا الفريق مع السعودية، هنا وهناك وأينما كان.

الأثمان كانت في السابق من الوزن الخفيف. أما وقد بلغت الحرب مرحلة حساسة وحاسمة، فليس مسموحاً أن يبقى «نائياً بنفسه». الحرب متصلة بالقتل، كما أشرنا. إذاً، «إما نكون أو لا نكون». ولا حياد عند هذه الحافة. إذاً، فليدفع لبنان الثمن. وسيحصل ذلك على دفعات.

النظام في سوريا ليس معفياً من دفع الأثمان، المعارضات كلها، في الميدان السوري ليست بعيدة عن دفع الأثمان الباهظة. الحرب تخطت الاثنين، صارت تُدار من بعيد. الفريقان يملكان جزءاً من الأمرة العسكرية، أما الأمرة الحربية العامة، فهي بيد موسكو وإيران وأنقره والرياض وواشنطن و… لقد فرغت سوريا من أن تكون قضية تخصّ السوريين وحدهم. حصتهم فيها هي بما يتناسب وقوتهم وبما يُرضي «حلفاءهم» و «أولياءهم». لا يبقى لسوريا الدولة، حصة في محيطها. الفراغ السوري ستملأه القوى الإقليمية والدولية، المسيِّرة لآلة الحرب، والراعية لمرحلة السلام، إذا…

الصراع المتجدّد في سوريا هو على الحصص الجغرافية لتأتي متوافقة مع المحاصصة الإقليمية والدولية. لكل شريك في هذه الحرب حصة، دفع ثمنها مالاً وعتاداً ومعارك. إذاً، هو الصراع على «سوريا الصغرى»، ووداعاً لسوريا الكبرى ولقلب العروبة ورافعة لواء القومية وفلسطين. هذا ماضٍ مضى. الثمن السوري كان فادحاً ولا يزال. الحرب أزاحت شعباً من مكانه. ألغت ثقافة وحضارة وانتماء. أنبتت، بهمجيتها ثقافات أقلوية، مذهبية ودينية متخلفة.

لبنان نجا من العدوى السورية. شارك بحربها من بعيد. محاولات استدراج لبنان أخفقت. الأمن نجح في مكافحة الإرهاب. حكماء لبنان أقاموا حدوداً بين جبهة الداخل وجبهات الخارج. ساعدتهم في ذلك رغبة الفرقاء المتفرقين بعدم هزّ الاستقرار. أما والحرب قد بلغت محكاً مصيرياً، استدعى استنفاراً سعودياً، فقد تبلَّغ لبنان إنذاراً على شكل عقوبة. ليس في وسع النظام في سوريا أن يتساهل ولو قليلاً. حلفاؤه غير متساهلين. وليس في وسع السعودية، قائدة التحالف البري المزعوم، أن تتساهل. حتى الآن، العقوبة مالية. ماذا لو كانت العقوبة أفدح من ذلك؟ ألا يُخشى على الأمن في لبنان؟

يبدو، أن لا أحد يريد أن يهدم الهيكل في الداخل. فماذا عن الخارج؟ إننا نقترب أكثر من الخطر. مطلوب أن يتعايش «المحوران» السعودي والإيراني في لبنان، فيما هما في مسلسل من الحروب العابرة للحدود، والمقيَّدة بالمذاهب. هل هذا ممكن؟

حذارِ الشمشونية. أعمدة الهيكل من كرتون.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى