العمل المضني والفقر في أغنى بلاد العالم

 

تفتح سارة سمارش مذكراتها المعنونة “هارتلاند” بقصيدة محيّرة مهداة إلى طفلة متخيلة. “كم أنا سعيدة لأنك لم تتحولي إلى حقيقة واقعية في حياتي. ولكننا تحدثنا على مدار سنوات طوال لدرجة أخالني لن أتوقف قط عن الحديث معك.”

يظهر عبر صفحات الكتاب طيف طفلة المؤلفة التي لم ترَ النور قط وتندمج في السرد الأنيق مثل طفل آلي، محفزة سمارش على الكتابة بصفة الراوي البالغة الروعة.

تشكّل حكايا مغامرات قومها المعسرين في كانساس وعثراتهم جل كتابها الأول الذي يتمحور حول حياة الطبقة العاملة الفقيرة في الغرب الأوسط. وتقول سمارش” يتحدثون نوعاً أريباً من الشعر المكوّن من الأشياء والأفعال.” وتتماهى في ذلك عندما تمزج بين الحياة التي عاشتها والمنظور المكتسب بالتعلم.

تعتقد سمارش أنها نجت من الفقر لأنها لم تصبح أماً مراهقة على عكس والدتها وجدتها وجدة والدتها. وتعزو ذلك لكونها الأولى من جيلها في العائلة التي ظفرت بمنزل وحيد مستقر يعود تاريخه إلى وقت زواج جدتها بيتي من زوجها السابع آرني.

وعلى سبيل المقارنة تنقلت جيني والدة سارة 48 مرة قبل أن تباشر المدرسة الثانوية. وتلك هي حقيقة الفقر. تلقي الرواية الضوء على الحياة في ذلك المنزل الريفي المتواضع الواقع بين جنبات 160 فداناً من حقول القمح خارج مدينة ويشيتا في ولاية كانساس.

وبالرغم من رحابة الأرض وشح النقد، اخترع آرني بكل بهجة طرقاً جديدة للترفيه. ففي عطل نهاية الأسبوع كان يحمل أفراد عائلته وكؤوسهم المترعة ويعبر بهم جدولاً ضحلاً في قارب مجرور بشاحنته ويخترق حقولاً مغمورة بالثلوج. وعبر حكايا والدة سمارش الظريفة ووالدها الرقيق المعدوم الحظ وزوج والدتها السخي وجدتها المفعمة بالحيوية، تظهر سمارش عجز الفقراء عن تحديد القوى المنظّمة التي تقمعهم وربما يساعدونها عن جهل.

يتمحور الكتاب من المزرعة حول قضايا عديدة: الجسد والأرض والعار. تصف سمارش عبء العمل على من لا يملك خياراً سوى القيام به- قوة عمل محرومة من الضمان الصحي بسبب الخصخصة. تهرس الحصادات أطراف الجيران ويتعرض والد الكاتبة لحادث خطير كاد أن يفضي إلى هلاكه بسبب التسمم الكيمائي أثناء فاتحة عمله في نقل مذيبات التنظيف. تستوعب النساء غضب أزواجهن صفعة صفعة. بينما تقوم الشركات الزراعية العملاقة بخنق المزراع العائلية في المنطقة، مخلفة ورائها بقايا عار مخضل- عار الإفتقار والإنتماء إلى العرق الأبيض في آن معاً.

وتضيف سمارش  “الفقر الأبيض هو تهمة مبهمة لأن المجتمع يصوّر الإبيضاض مرتبطاً بالقوة – ليس من خلال جعله العرق الإعتيادي الذي يصنف ما عداه “بالآخرين” فحسب ولكن من خلال إستخدامه كإختصار للإستقرار الإقتصادي.”

نشأت سمارت بين ظهراني من صوّت ضد مصالحه “أفراد يقتاتون على المعونات الإعاشية يُفترض أنهم “كسالى” وبالنسبة لنا لم تكن أية كلمة أكثر إيلاماً من تلك”.

وتضيف: “وفي ضمن ذلك الإطار يخلد الليبراليون المرتاحون مادياً إلى أن ثرواتهم نتجت من مزاياهم الفردية ويصرون على أنهم يضطرون لدفع الضرائب لمساعدة “المعوزين”. وبالتالي يضطر الفقراء لفعل خيار من إثنين: الإعتراف بالفشل الشخصي والتصويت للحزب الأكثر ميلاً لمساعدتهم أو التصويت للحزب الآخر والذي تردد أدبياته الأمل بأن مجهود حياتهم هو من يعوضهم.”

تعتبر “هارت لاند” مذكرات إنسانية رقيقة ذات تبصر ألمعي حاد وتنتمي إلى عدد متنامٍ من الأعمال المهمة، بما في ذلك كتاب ماثيو ديزموند “المطرود” وكتاب ايمي غولدستاين “جينسفيل” والتي تستحق مكانها الخاص على أرفف الكتب الواقعية عبر البلاد: في ما يسمى التقهقر الأميركي ما بعد العصر الصناعي. وربما ببساطة: الطبقة.

وهو تعبير تقول سمارش إنه لم يُذكر خلال طفولتها في الثمانينات والتسعينات من القرن العشرين. “لقد أفضى عدم الإعتراف بذلك إلى الإنتقاص من معاناتنا وإلحاق العار بنا إذا حاولنا التعبير عنه.”

تظهر سمارش عبر الأزمة الزراعية في الثمانينات والقوانين الإقتصادية المجحفة في عصر رونالد ريغان أن الحلم الأميركي الموعود قد أُستخدم لقهر الفقراء. لقد كانت تعويذة قوية. وكذلك كانت “ماذا سأخبر طفلتي؟”.

تستحضر سمارش طفلتها التي لم تلدها قط في هذه المذكرات لأن طرح مثل ذلك السؤال وفق رأيها هو الذي وضع حياتها على الطريق السوي ومكّنها من متابعة تحصيلها العلمي والإستفادة من نزعة المقدرة على الفعل القابعة في موروثاتها. وترى أن تلك الجملة قرصنة فعالة للحياة تستجمع أنقى نوايا المرء وتطلعاته. وعلى عكس الحلم الأميركي لا تبنى على الأمل المجرد بل على النصح الفعال.

المصدر: نيويورك تايمز – ترجمة: إبراهيم عبد الله العلو

الميادين نت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى