الغضب (عباس بيضون)

 

عباس بيضون


مشهد الأطفال والكبار الممددين على الأرض على طول القاعة وعرضها في سوريا يثير الغضب، لكنه غضب عاجز يائس. كذلك الغضب حين يتناهى إلينا أن انفجاراً انتحارياً في مجلس عزاء في مدينة الصدر في العراق خلف فوق سبعين قتيلاً. نراهم ولا نراهم لكن الخبر نفسه يصيبنا بنفس العجز. ما يحدث فوق تصورنا وفوق قدرتنا على التخيّل وفوق أي اعتبار. لا نستطيع أن نقترب من المشهد. لا نستطيع أن نجد بيننا وبينه صلة ما، لا نستطيع أن نقحم أنفسنا فيه. لسنا بالطبع سعداء لأننا خارجه. اننا منذ عهد قريب رأينا مشهداً مماثلاً في الرويس وطرابلس. لكن مشاهد كهذه لا تفعل سوى أن تبتعث خوفا نهرب منه إلى شيء من الصمم، إلى شيء من الإهمال، إلى شيء من العجز عن التفكير، عن التصور. إلى نسيان إرادي. إلى خجل لا يطاق ولا يمكننا تحمله فنبتلعه ونمتلئ به حتى لا يبقى منفذ لإحساس أو شعور. انه فقط غضب أصم. غضب ينتشر فينا ويسد نفوسنا. غضب لا يتحرك ولا يتنفس وكأنه وقف على قلوبنا وكأنه وقف في ضمائرنا لا يريم ولا يتململ ولا يصدر صوتاً. غضب ننشحن به ونحتقن حتى يغدو من لحمنا ومن دمنا ومن طبعنا وذواتنا. انه غضب أخرس وبعد قليل سيعقل ألسنتنا ويعقل أفكارنا فنصمت ولا نفكر ونغدو في هذه المنطقة الصفراء الجرداء التي هي رديفة العبث، والتي هي اللامعقول نفسه وقد تجسد وصار مكانا وصار عقلاً خاصاً، وصار ربما قلبا وصار شعوراً لمن لا يشعرون.
قبيل سنوات شعرنا بأننا نوشك على الخروج من البيات التاريخي. اننا انهينا عقوبتنا وأن ثمة ما يتزحزح عنا. ان محكوميتنا قاربت على النفاد وأن عقوبتنا انتهت. أن قدرنا انفتح وتحرك عن صدورنا. قبيل سنوات رأينا بأعيننا بلداً كاليمن ينتفض من تحت أغلاله القبلية ويحقق في الساحات وتحت العسف والرصاص مفهوم النضال السلمي، تحركت مصر وكسرت سباتها ونفضت همودها وفي الشارع، في الشارع وحدها أطاحت بنظام رزح فوقها ثلاثة أرباع قرن. غضب الشارع التونسي وعم غضبه في لحظة مباركة وهدرت جموعه السلمية وأرغمت الديكتاتور على الفرار. انتقل الحراك إلى حيث لم نتوقع. إلى سوريا، خرج الجمهور من الأقفاص وسارت جموعه السلمية تحت القصف والعسف والتعدي السافر. أطاحت ليبيا بالديكتاتور المهرج.
قبيل سنوات أعطينا أمثلة في الانتفاضة الشعبية وأمثلة في الحراك السلمي وأمثلة في الإصرار وفي المثابرة ونكاد نقول أمثلة في استقلال الجماهير وفي طلب الحرية. كان بوسعنا ان نقول ان الجمهور إمتلك إرادته وعرف قوته. أن انظمة مخابراتية تعرت تماماً وبدت معزولة منبوذة. ان الحرية والحرية السياسية صارتا قيمة جماهيرية وأن وعيا مختلفا هو الآن غير السائد. ان دولة تحصي الأنفاس وتقعد مقعد المعلم وتفرض نفسها وفكرها بالعسف والتلصص. ان دولة كهذه مطوقة بجمهور غاضب وبملايين أو بمئات ألوف، لا تستطيع أن تصمد حينما تجد نفسها وحيدة محاطة بالرافضين. إن حلم دولة أخرى في موقع آخر وبقيم أخرى وبشروط وقواعد وعلاقات ثانية. ان هذا الحلم يغدو عاماً ويملأ عيون الجمهور ويملأ خياله. الجمهور الذي يلقي من الشارع أطروحته السياسية ويتسيس بسرعة هائلة ويمتشق، بما يشبه السحر، وعيا مفاجئاً.
قبيل سنوات وعلى مدى السنوات القليلة القريبة، لم نكن نحلم، كنا نرى ونعاين ونراقب ونرصد ونتفاجأ ونزداد وهلة على وهلة، وبغتة على بغتة. لم نكن نحلم لكننا كنا نرى ما يشبه الحلم. كنا نرى الأحلام تتجسم وتدرج في الشوارع وتتكثف في الملايين وتهدر وتحاصر وتتفاقم. كنا نرى أحلامنا مشهداً تلو مشهد ولوحة تلو لوحة. لم نكن غافلين عن ان في الأمر اهتزازات وانهيارات وفلتات، ليس جميعها مسعداً. كنا نعرف أن بنى مؤرثة تقع ولا بد من ان يكون ذلك على كثير من الرؤوس، لا بد من ان يؤدي فك الأغلال وسقوط الهياكل إلى اباحات كثيرة ليس بعضها مؤنسا، لم نتوقع ان تكون الجنة في انتظارنا. لم نحدس بأننا سننتقل فوراً إلى وضع ملائم. فهمنا ان بين وضع ووضع آخر صفحة من المشقات وصفحة من الآلام. لكننا مع ذلك لم نستطع ان نتخيل كيف ستكون هذه الصفحة، كيف يكون هذا الوضع الانتقالي. لم نعرف مدى الدمار الذي سيحيق ولا كمية الكوارث التي ستقع، لم ننتبه إلى انها لعبة خطرة قد يكون دماها هم الأطفال قبل غيرهم. الأطفال الذين رأيناهم بوجوههم التفاحية مستلقين على البلاط وكأنهم شبعوا نوماً وقد يستيقظون بعد هنيهة ويملأون أطراف الغوطة لعباً. هذا مشهد لم نحسب له حساباً. مشهدا بعد مشهد، امتلأنا من صور الأطفال المستلقين، امتلأنا من وجوههم المعافاة، من وجوههم التفاحية. نستحي ان نقول اننا اتخمنا من هذه المشاهد، نستحي ان نقول اننا شبعنا. نستحي ان نقول اننا لا نحس ولا نشعر ولا نفكر. اننا بتنا لا نعرف أنفسنا بل نخاف من أنفسنا. نراها غلظت وتخشبت وباتت أنصاباً يابسة. نرى الحرب تتجدد في العراق ونعرف ان ثمة أسراراً فوق مداركنا. ان لعبة الحكم هي نفسها لعبة الدم. نرى القبائل تتناحر في ليبيا وعاصمة الثورة تغدو عاصمة الانفصال. نرى اليمن بعد ان أتحفنا بالمشهد السلمي يغور في تراب القبلية. نغضب ولا نعرف اننا غضبنا. نقول الغضب ضد السياسة لكننا لا نملك سواه. للسياسة وقت آخر.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى