الفكر الإسلامي بين غربتين … البداية والعودة (عمر مسقاوي)

 

عمر مسقاوي

حينما نتحدث عن الإسلام التاريخي، فإننا نتحدث عن واقع عملي وليس مجرد تنظير في فضاء الاحتمال، وهي معايير نستمدها من الأصول التي تمثل ركائز وعلامات في طريقنا حتى لا يضلَّ بنا المسار.
فالاجتهاد عمل فقهي في الأساس. وهو من الجهد الملحّ على المجتهد في استنباط مرجعية النص، وهو من جانب ما إلحاح الدخول في مشروعية الحاضر في إطار ثقافة جامعة تمسك بمستجدات الزمان والمكان.
فالشرط الأساس لآلية الاجتهاد هو إلحاح المستجدات على حركة المجتمع كيما يتخذ الفقيه فيه حلاً قابلاً للتطبيق، وهذا يتطلب في البداية تحديداً للمصطلحات من خلال الهدي النبوي الذي هو المعيار الذي ننطلق منه في رؤيتنا.
ففي معايير الثقافة الإسلامية هناك فرق بين المستجدات التي تتطلب الجَهد في إعطاء الحكم الشرعي وبين المحدثات التي تداهم المناخ الاجتماعي. فالمستجدات هي التي تبرز من خلال آلية حركة المجتمع وهو يضع خياراته الاجتماعية والاقتصادية عبر مناخ ثقافي معين، بينما المحدثات هي طوارئ دخيلة على الإطار بمعنى أنها تربك حركة النظام الأساسي لثقافة المجتمع إذ تخرجه من مداره لأنها لا تأتلف معه.
وقد وضع الحديث الشريف حدوداً ما بين المستجدات والمحدثات: فمن اجتهد وأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران، لكن محدثات الأمور بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
والفقه المبثوث في تراثنا من الوجهة التاريخية يمثِّل يوميات مستجدات الحضارة الإسلامية منذ نشوئها إلى حين احتجاب حضورها. لذا، نرى الفقهاء استخدموا وسائلهم في استنباط الأحكام طبقاً لمعايير ثقافية امتصاصية ناشئة من تداخل الثقافات المجاورة وبالخصوص الثقافة المتوسطية، وهم في هذا يستخدمون وسائل من خلالها ينفذون إلى مساحة النص. فالنص يظلّ هو محور المستجدات لكن المحدثات هي التي ليست من أمر النص «فمن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» كما جاء في الحديث الشريف.
لكن الفكر الإسلامي في النهاية وفي مختلف حقوله يتصل ببناء الشخصية في المسلم كمنهاج يرتبط بالسلوك الفردي من ناحية، ومن ناحية أخرى بالعلاقات الاجتماعية والاقتصادية. وهذا يعني أنَّ الفكر الإسلامي ليس فكراً محايداً، بل هو فكر متورط في بناء ثقافة ومناخ اجتماعي هادف تتجلى في إطاره النوازل والمستجدات ويرسم تبعاً لذلك حدوداً فاصلة بينها وبين المحدثات التي هي تداخل معطل لحيوية وحركة المجتمع الإسلامي لذا، فهي بدعة.
هذه الحدود تضعها ثقافة المجتمع، بمعنى أن هذه الحدود وليدة المصلحة المستمدة من المزاج الثقافي للحضارة الإسلامية، لتكون إطاراً حضارياً في غربة البداية وغربة العودة معاً.

1- في غربة البداية

ورد في الحديث الشريف: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ».
وهنا يقتضي النظر في تينك الغربتين، غربة البداية ثم غربة العودة.
فغربة الإسلام في إطار العصر الجاهلي الوثني اقتضت حضوره منارة هداية إيمان بالله الخالق كلَّ شيء وهو على كل شيء وكيل، تلك منارة لمسيرة حضارة يضعها جهد الإنسان. لذا، كان لا بد عبر القرآن الكريم من إرشاد لنمطية رؤية عبَّر عنها القرآن الكريم في خطابه للرسول (صلى الله عليه وسلَّم) «ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم» (الشورى 52)
فالمحورية الأساسية في غربة البداية اقتضت ما تضمنه القرآن الكريم من أساسٍ تجريدي للفكر الإنساني كيما يدرك ذلك النور، نور الهداية البشرية إلى وظيفتها في الإطار الكوني.
وهذه المحورية هي نقيض الواقع الوثني الذي اتسمت به جاهلية ما قبل الإسلام.
فالجاهلية تستدعي النموذج وحدوده لأنها تجهل ما وراءه، وربما سميت الوثنية جاهلية من الجهل في إدراك موقع الإنسان من هذا الكون الفسيح. إنها قصور الإنسان عن التأمل والاحتكام إلى العادة والنموذج. ففي ظلمة هذا النفق يجهل الإنسان مسيرته إذا لم يأته نور علوي يكشف معالم الطريق.
هذا النور عبّر عنه القرآن الكريم بالهداية التي تنفذ إلى عمق مكونات الفكرة الإنسانية التي تكتشف وبوسائلها الذاتية طريقها في ذاكرة انتسابها إلى ميثاق النظام الكوني يوم خلق الله آدم. فالقرآن الكريم يأمر الرسول بالتذكَّر والتبليغ «فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر» (الغاشية 21 – 22)
فالآية الكريمة هنا، والله أعلم، تطرح منهجاً لتأسيس التفكير النابع من عمق الإحساس العميق بالحقيقة الكونية. لذا، لفت الرسول إلى طبيعة مهمته وهي أنها تبليغ رسالة لا سلطة احتواء، رسالة تستثمر في العمق الإنساني خصائص الفطرة الهادية إلى اكتشاف موقع النفس الإنسانية من الكون المحيط بها.
فالسلطة بكل معاييرها النفسية أو السياسية تحجب التأمل، وإذا الدعوة تخاطب الفطرة وتذكر بها. فالتذكر عمل ذاتي مستقل واستبطاني. لذا، فالإشارة القرآنية إشارة نفسية في مسيرة التبليغ تخاطب عمق النفس الإنسانية بعيداً عن المؤثرات الاجتماعية والخارجية. وهذا توجيه لا يتعلق بالرسول فحسب وإنما بقاعدة تتصل بالحكمة والموعظة الحسنة.
وعلى ضوء هذه المنطلقات، فإنَّ الإسلام يلغي تراتبية السلطة الروحية التي تملك أسرار الصلة بالله، فالآية الكريمة تحمل هذا المفهوم «وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان» (البقرة 186) فهذا الإلفات المباشر من المخاطب وهو الرسول إلى المؤمنين كما يقول المفسرون، يعني أنَّ العلاقة الروحية بين المؤمن وربِّه تتجاوز أرضية السلطة وهذه إشارة إلى حنيفية المسار التوحيدي الذي ابتدأ مع سيدنا إبراهيم (عليه السلام) في ذلك الحوار الاستبطاني الذي قصه علينا القرآن الكريم بين القمر والشمس. بمعنى أنَّ الفكرة الدينية تنطلق في الإسلام من عالم الشهادة إلى تجريد الرؤية في الإيمان بالله، أي أنَّ الفكرة الدينية تبدأ حين تستشرف الإدراك الدائم لمسيرة الحياة كما يقول محمد إقبال.
هذه الصورة في الشهادة والمشاهدة تدفع العقل إلى تعريف بدهي لمفهوم الألوهية التي هي بمقدار خفاء كنهها يتجلى سطوع حقيقتها. من هنا، فإنَّ المحاكمة في مفهوم الفطرة الأولية هي محاكمة عقلية وهي بالتالي وسطية منهج في تجدّد دائم حول محورية الثابت المستقر من الإرشاد الإلهي كحقيقة سابقة على حدود التجربة الإنسانية.
من هنا، أضحى العقل مسؤولية لأنَّ قدرته على التأمل المستشرف لما وراء المحيط هي وسطية إحاطة كاملة تمسك بأمانة الحياة في جوانبها الأخلاقية والإبداعية واستقرارها النفسي. فإذا ما أخلَّ بأمانة الإحاطة بها كان ظلوماً لنفسه إذ تميد به البيئة والحياة من حوله في كل ما كسبت أيدي الناس من الفساد، جهولاً إذا انحسر عقله عن الإحاطة بوظيفته في الإدراك المطلق لقيمته في عمارة الكون.
تلك غربة الاتجاه نحو الوثنية الجاهلية التي أنتجت في عصرنا حضارة الاستهلاك.
فالإسلام وضع فكرة الاستهلاك بين حدّي البخل والتبذير فحفظ نعمة الحياة وسعادتها بسعادة الإنسانية فكانت الفطرة التي انطبعت على صفحتها مناهل النور الألهي. «فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله» (الروم 30)

2- في غربة العودة

لكي يواجه الإسلام تحدي الحضارة الحديثة لا بد من أن ننظر في مدى اتساع الأصول التي بنيت عليها النظرة الإسلامية في مداها الكوني، وأن نرقب في الوقت نفسه مدى احتوائها المستجدات وتحديد الأحكام تجاهها.
إنَّ عناوين كثيرة تطرح حول تجديد الفكر الإسلامي لكنها تعبّر في الحقيقة عن أزمته في معطيات العصر الحديث.
لكنَّ العصر الحديث فاجأ البنية الثقافية والاجتماعية التي تمحورت حول النص كمرجعية ثابتة فاجأها بمنهج ينطلق من مفهوم الثورة الفرنسية التي وضعت النص الإلهي جانباً واستعادت توازنها الوثني ذا التراث الروماني الهليني عبر مرجعية الفرد في إطار الجماعة وليس مرجعية الجماعة في سلوك الفرد. هذا الانقلاب الأساسي وضع الإسلام في غربة جديدة بدت مظاهرها في تلك التساؤلات التي أشرنا إليها.
إنَّ ذلك يدعوننا إلى أن نطرح المشكلة في ظل معاصرتنا لإطار ولج فيه الفكر الإسلامي عالماً مختلفاً منذ أول اتصال له مع حملة نابليون.
لقد اقتحمت حملة نابليون عالماً كان الفقة والتراث فيه مرجع الفصل في دقائق الحياة.
فالفقيه اكتسب مكانته في المجتمع في ذلك الترابط الوثيق بين دورة الحياة ودور الشريعة في تنظيمها وهكذا كان التعليم في تلك المرحلة مرتبطاً بالتراث الناشئ عن الحضارة الإسلامية كالجامع الأزهر، فكانت حملة نابليون على مصر بداية اتصالنا بأوروبا كحادث أربك وتيرة الحياة الاجتماعية. تلك الحياة الذي ارتبط فيها التعليم والتربية والأصول المعرفية بما اتصل بها من تراث الحضارة الإسلامية عبر القرون.
هكذا، بدأ امتداد الغرب إلى الشرق من دون أن يتصل ذلك بتطوير التراث الثقافي الإسلامي وتأهيله من أجل معاصرة تحتوي المحدثات في عمقها الكوني لتنقلب إلى مستجدات تتطلبها حركة الاجتهاد.
فباريس وسقت إعجاب الطهطاوي بإنتاجها الكمي الذي ألقى بثقله في سكينة الماضي فأورث الجدل أكثر مما أتاح الاقتباس.
فقد كان انبثاق فجر النهضة في حاجة إلى حقل تنمو في حرارته مناهج الاقتباس من تجربة جديدة في بناء معاصرة فاعلة في مستجدات من التراث الاجتماعي، لكن الانبهار أمام الغرب اقتحم الإطار على غير موعد من داخله فحوّل إبداع الجيل إلى بدعة افتقدت تجانسها مع المسيرة التاريخية لمجتمع متطور (كما يقول مالك بن نبي).
إنَّ قرناً من الزمان أو يزيد قد مرَّ لكن مطالع الفجر الصادق لا تزال تنتظر الشروق. وبدلاً من أن تكون الحداثة منطلق أفق جديد غدت مأزقاً يرتد إليه بصر العجز عن مواكبة تحولات القرن. ويبدو لنا أنَّ الرحالة العرب إلى أوروبا ابتداء من القرن التاسع عشر عادوا لتولي مسؤولياتهم الوطنية بأوعية المحدثات من دون وعيها لأنَّ أحكامهم قد تخلفت عنها النظرة النقدية التي تقارن بين النظرة الإسلامية للسلطة وبين مكونات العقد الاجتماعي الذي بني على مفهوم المذهب الفردي.
فالديموقراطية استمدت روحها من أصولها اليونانية التي مهدت للتطورات اللاحقة في مسيرة العولمة الأوروبية فكان تطور العلوم والثورة الصناعية أساس وحدة المقاييس في إنتاج الوفرة الذي أحاط بالرؤية الاجتماعية المشرقية فحشرها في قوالبها الضيقة لتنمو في إطارها خارج بنيتها التاريخية.
هكذا، فقد الرواد في المنعطف التاريخي، الاتجاه فانفصل القطار عن مقطوراته التراثية التي بقيت في محطة الانطلاق وغدا الفكر التحديثي فكراً أرستقراطياً تحتويه صالونات الامتياز فيما ضربت المدن ونظم العمران بسور بينها وبين أنماطها الاجتماعية أورث الانفصام وازدواج الشخصية في مواجهة العصر الحديث.
هكذا، مع سقوط الخلافة العثمانية بدت مشكلة الخلافة في صورة قناع لمفهوم جديد للدولة ولقواعد الصراع المبنية على الامتياز السلطوي، أعني امتياز المثقف وامتياز السياسي ثم امتياز القوة والخداع الجماهيري. وغدت الفردية المستوردة صراعاً لا شعورياً وسلطة أطلال، وافتقد البحث العلمي كثيراً من حقائقه حين تقدم الأنا على جهود المجموعة وغاب دوره في الإنتاج لبناء مجتمع إسلامي وعربي متطور.
أما في الصراع السياسي فقد بدت فكرة الدولة من منظور إسلامي مجرَّد اتجاه في النظام السياسي بين سائر الاتجاهات وليس احتواء معدلاً للمناخ الثقافي طبق معايير العدل والإحسان في مفهومه الكوني وهو أساس القيم الأساسية للحضارة الإسلامية.
وإذ بدت الحضارة الوافدة في نمطيتها سلطة في معايير القوة عبر النزعة الفردية، فقد أغرى مفهوم الحكم الإسلامي بروح الصراع حين بدأ الرواد يصدرون أحكاماً توقيفية من غير اتساق منطقي افتقد فيها الوعي الإسلامي أصول اجتهاده.
هكذا، بدأ التيار الديني السلفي الذي قاده الشيخ محمد عبده يعطي تحديداً جديداً في مفهوم الدولة الوطنية. فالحكم الإسلامي ليس سلطة ثيوقراطية كما هو المفهوم الغربي. فالمشرع لم يأتِ ببيان عن كيفية مخصوصة لمخاصمة الحكام، لكن الشورى واجب شرعي لأن الأمة في إطار الشريعة هي مصدر السلطة ومصدر التشريع فيما لا نص فيه من الكتاب والسنّة.
فالشريعة تطرح إطاراً وتترك التفاصيل للأمة كي تختار من داخل الآراء خيارات تتغير بتغيير الزمان والمكان.
ويرى المفكر طارق البشري أن موقف الرواد المصلحين من رفاعة الطهطاوي إلى الشيخ محمد عبده كان موقفاً إصلاحياً في إطار الكيان الإسلامي القائم قبل انهيار الخلافة الإسلامية.
لكن، بعد سقوط الخلافة ترك لتلاميذ أوروبا عبر الشيخ علي عبدالرزاق، تلميذ أكسفورد، مراجعة جديدة لمسلّمات الفكر الإسلامي إذ ينفي أية صلة بين التعاليم القرآنية والمفهوم السياسي للدولة كما نشأت بعد وفاة الرسول، ويرى أنَّ علم السياسة كان أضعف العلوم لدى فقهاء المسلمين.
إنَّ الردود الوفيرة على هذا الطرح مبثوثة في مختلف المصادر، لكنَّ فكرة عبدالرزاق بقيت فكرة محورية لدى رجال التحديث حتى يومنا هذا. وقد بدأت هذه الأطروحات منذ بداية القرن العشرين مع طه حسين في قضية الشعر الجاهلي تهز روح الأمة الجامع بعصا الجدل الذي أشرعه إنتاج المستشرقين.
وفي ظل هذه الفوضى المستشرية برزت حركة «الإخوان المسلمين» في الثلاثينات من القرن الماضي حركة شمولية لا تدعو، كما يقول البشري إلى إصلاح ونقد الحاضر والتفكير ما هو قائم، بل إنها جنحت من جديد إلى السهولة في صورة الإسلام الدولة وقد توزعتها أطروحات العصر الحديث وبددت معالمها.
هكذا، تحولت حركة «الإخوان المسلمين» من مسجد الإسماعيلية حيث بدأ حسن البنا عام 1936، الدعوة إلى الإسلام والاهتمام بتأطيره في إطار تراتبي ينطلق من منصة مركزية تمنح إرشادها التوجيهي إلى المنتسبين إليها على غرار نظام الأحزاب المستمد من النظام الأوروبي.
وفي ظني أنَّ هذا الاتجاه أدى إلى تورط الدعوة الإسلامية في معايير تخالف نسق الحضارة الإسلامية، فإصلاح ما هو قائم كان يتطلب الالتحام بعمق الحياة الاجتماعية في وحدتها الاجتماعية من أجل تأسيس مناعة تربوية في فضاء اجتماعي لا يزال على ترهله وانقسامه يدين في بنائه لمسيرة الحضارة الإسلامية التي ألقت مراسيها في مرحلة تاريخية معينة.
فالحضارة الإسلامية في مسيرتها التاريخية هي المسؤولة عن المناخ الوطني المصري في صلاحه وانحرافه بكل ما احتوى من عقائد ومذاهب وأخطاء الاقتباس من الغرب كما أوضحنا.
وعلى رغم أنَّ الإصلاحيين في نهاية القرن التاسع عشر كانوا يتحدثون عن النهضة بعين تستشرف أوروبا، كان التاريخ الحضاري للإسلام حياً في ذاكرتهم سواء كانوا يتحدثون صواباً أم خطأً عن وعي أم غير وعي عن تجديد المناخ الوطني النابع من تراث الإسلام وهو لم يكن مقتصراً على الخلافة العثمانية، بل على مسيرة القرون خارج نمو الحضارة الأوروبية المسيحية اليونانية.
لذا، فإنَّ مقاربات هؤلاء جميعاً على اختلاف رؤاهم المتناثرة في فراغ الثقافة الأوروبية كانت في حقيقتها تهدف إلى الدفاع صواباً أو خطأً عن شخصية جامعة في مناخها التاريخي الحضاري وقد نما فيه التجديد في الفكر الإسلامي.
من هنا، فإنَّ تورط الاتجاه الإسلامي في قوالب ابتعد فيها عن آلية التراث ومناخه الجامع، أخرجه من دوره الرسولي في بناء المناخ الجامع لوحدة الأمة كرافعة في مفهومها الوطني التذي نمت فيها العقائد المختلفة.
فالوطنية ليست سوى ذاكرة مشتركة تفاعل فيها العطاء الإنساني في ظل تحيز ثقافة نمت مكوناتها من معطيات الحضارة الإسلامية وأورثت مناخها الثقافي.
فالحضارة المنتمية إلى تاريخية الإسلام هي في النهاية فعل الأجيال التي اختلفت فيها المعتقدات وقد أفضى بعضهم إلى بعض جهداً وطابعاً جامعاً لبيئة عروتها المناخ الروحي الذي تسرب إلى السلوك الجامع قوة وضعفاً في موكبه التاريخي. هكذا، أضحى الإسلام هو الوطنية حينما يسكب المسلم والمسيحي حضوره في إطار إجتماعي نما سعيه فيه.
لذا، فحينما اتخذت حركة «الإخوان المسلمين» نموذج التنظيم الحزبي كآلية دعوة بهدف طيّ بساط الحاضر تحت شعار الحكم لله عبر الوصول إلى السلطة، فقد حجبت تطور الفكر الإسلامي عن مشكلات العصر كحلٍّ تاريخي لتطور حضاري في مصلحة الإنسانية وأضحت تعمل في غربة الشعارات خارج مشكلاتها. وها هي جهود السنين الطويلة تدفع الحركات الإسلامية من حيث تدري أو لا تدري على سطح هامش مجرى العالمية.
فقد كتب المفكر الجزائري مالك بن نبي في أوراقه الخاصة في 13/2/1956 وهو ينفذ شعارات الثورة في مصر الملاحظة الآتية:
إن العالم الإسلامي يمر بمرحلة ثورية لكن الثوريين المسلمين لم يحددوا أو يُعَرِّفوا بوسائلهم ولا الطريق الذي سوف ينتهجونه كما لا يبدو هدفهم واضحاً كفاية في ارتباطهم أولاً بمثال أو نموذج.
ذلك أن الهدف الثوري الرئيسي لا يبحث عن معتقدات للثوار فحسب تكون هي المحرك للثورة، بل عن وعود يعد بها بكل الوسائل الموضوعية.
على ضوء ملاحظة بن نبي منذ نصف قرن أو يزيد جاءت موازنة قرن من الزمان أو يزيد ولا تزال مطالع الفجر الصادق تنتظر الشروق.
وبدلاً من أن تكون الحداثة منطلق أفق تجديد وتجدد كما يقول بن نبي غدت مأزقاً سلفياً حيناً و «إخوانياً» حيناً وليبرالياً ديموقراطياً في هزيم لغة الشعارات وكل منهم يرتد إليه بصر العجز عن مواكبة القرن الحادي والعشرين.

* رئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى في لبنان


صحيفة الحياة اللندنية

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى