الكتاب العربي أمام الثورات: سوق ضيق يزداد ضيقاً (عناية جابر)

عناية جابر

 

ما عدا الكتب ذات الطابع الأدبي والفني والشعري، وبمعزل عن أزمة القراءة العالمية الطابع في ظل تطور وسائل التواصل والمعرفة العصرية الالكترونية، هناك مشاكل خاصة يجد الكتاب العربي نفسه في غمرة بحورها، وهي العلاقة بين العرض والطلب والسوق، أي علاقة الكتاب بالمقولات الاقتصادية التي يتوهم البعض إمكانية تجاوزها من دون التعمق بها، إن من يظن ان الكتاب سلعة «راقية» حضارية لا علاقة لها بحاجات «السوق» قد يكون مخطئاً بحق نفسه وبحق الكتاب.
فالكتاب ولا سيما في مجالات الأبحاث والمعرفة بالواقع ان لم يجب على «توقع» ما عند القارئ سيكون مآله التجنب والاهمال. وإلا كيف يمكننا شرح ظاهرة الكتب الأكثر مبيعاً قبل قراءتها؟ وفيما عدا بعض الامثلة الاستثنائية حيث يلعب اسم الكاتب الدور الرئيسي في حض القارئ/ الزبون على الشراء، فإن للعنوان دوراً كبيراً في دغدغة عقل الشاري الذي يكون يبحث عن اجوبة معينة على اسئلة حائرة في ذهنه. فالكتاب هنا لا يخرج عن قاعدة الشراء التي تتحكم بعملية بيع أي سلعة من أي نوع كانت «راقية» أم «تجارية».
الكتاب سلعة شئنا أم أبينا تخضع لقانون السوق والعرض والطلب. وهي تجيب على حاجة أو تخلق هذه الحاجة عند الزبون. لكن القاعدة التي لا يمكن الكتاب ان يشذ عنها عليه ان «يُشبع» توقعاً أو حاجة ما عند المتلقي. وفي النوع أيضاً إمكانية استبدال سلعة بأخرى، ففي حالة وقوع الزبون على فراغ معين أو انعدام وجود العرض الذي يغريه، ينتقل إلى اختيار سلعة بديلة قد تكون الطبخ مثلاً او الأبراج في حالتنا الراهنة. أشير إلى هذه النقطة بالذات لكي ألمح إلى ميل عام لدى بعض الكتّاب إلى رمي التهمة على الجمهور وأوليات السوق والظروف وقلة القراءة في الوقوف وراء انكماش المبيعات الكتبية وانتشارها. صحيح ان هناك الكثير من المعوقات الموضوعية تمنع القراءة وتحد من توسعها، لكن الصحيح أيضاً ان عملية النشر عليها ان تجيب على توقعات القراء وعلى اسئلتهم الضمنية. فالكاتب هنا يتساوى وصاحب الفكرة الاقتصادية في إنتاج وتسويق سلعة تعجب الجمهور او تعينه على قضاء علمه في الشيء. فلو طرحنا السؤال من هذه الزاوية كم من كتاب معروض حاول ان يجيب على هذه الإشكالية؟

خطأ تقني
مرّ الكتّاب والصحافيون والبحاثة مرور الكرام على قضية انتفاض العرب التي فوجئ الجميع بها. وكأن من الطبيعي ان يتفاجأ جمهور النخب والأبحاث بثورة تعصف بمجتمعهم. كأن الخطأ ثانوي تقني ومطبعي نعتذر من القراء الكرام عنه. وكأن الحق على الطليان أو على الثوار أنفسهم بأنهم لم يبلغوا الكتّاب بموعد ثورتهم. أو ليست مشكلة الكتّاب هنا بالذات حيث يظن البعض او حتى الأغلبية انها ثانوية الأثر؟ أمن الطبيعي ان يتفاجأ الكاتب وأن يكون الكتاب غائباً عن شرح مجتمع صار في درجة من الغليان وعلى قاب قوسين من الانفجار؟ وما هو دور الكاتب إذا وأين كان؟ ألا يدل ذلك على طلاق هائل بين هموم الناس وتوقعاتهم وبين هموم الكتّاب والكتب؟ واستطراداً ألا يدل ذلك على طلاق كبير بين «السلعة» ولو كانت ثقافية وبين سوقها الطبيعي؟
عندما يتفاجأ الكاتب بالثورة في بلاده لا يعني إلا ان المادة التي كان يحاول عبثاً بيعها في السوق هي ربما مادة محنطة فيها عورات بنيوية و«عيوب صنع». وما ابتعاد الزبون القارئ عنها إلا دليل صحة منه، ودليل علة في الإنتاج والإبداع.
عندما يتفاجأ الكاتب بأحداث مجتمعه يعني انه كان يبحث في مجتمع آخر من خلال الترجمة بينما المطلوب الخلق والإبداع في مجتمعه. ولعل سوء التفاهم العميق بين الكتاب البحثي وبين جمهور القراء منبعه هنا بالذات. ما يسميه الاقتصاديون بعدم تناسب السلعة مع الطلب. العرض في واد والطلب في واد آخر. مأزق انتشار الكتاب خلفه أسباب كثيرة عالمية وعصرية ومحلية أيضاً، لكن أسبابها الفعلية عندنا هي ربما في تلك الهوة العميقة بين هموم النخب ونوعية ما يكتبون، وهموم القراء وتوقعاتهم.
لن يمر معرض الكتاب العربي بفاعلياته فقط. ما هو معلن غير ما هو تحت الطاولة. الأحاديث كثيرة، وثمة كآبة طاغية في اجواء الناشرين. تقول احدى الناشرات ان معرض بيروت للكتاب لم يخذل الناشرين يوماً وأن بمستطاع المعرض التعويض عليهم خساراتهم من المعارض الاخرى. ثمة معادلة إذن، قائمة على مبدأ الربح والخسارة. لا يخفي الكثير من الناشرين خساراتهم في معارض الكتاب الاخرى. ثم ان معارض الكتاب الاخرى لم تعد تحسب حساباً لمعرض بيروت للكتاب كما فعلت دائماً، فها هي فاعليات معرض الكتاب في قطر تقوم في الآن نفسه مع فاعليات معرض بيروت الدولي للكتاب، المنافسة مفتوحة اذن، ولن يحسب احد حساب احد، وخصوصاً تاريخية المعرض وإنجازاته كمعرض بيع فردي وساحة بيع بالجملة. اننا امام حقائق جديدة في عالم النشر اللبناني. إذ ان القاعدة القديمة تغيّرت وهي قاعدة ثلاثية الأطراف: بيروت ومصر والعراق، مصر تكتب، بيروت تطبع، والعراق يقرأ. تواجه مصر ما تواجهه، ويواجه لبنان ما يواجهه، في حين تمّ تدمير العراق وتدمير قارئ العراق. ثم ان بيروت ازدادت كتابة وكتّاباً، ففي جولة سريعة على واحدة من دور النشر المشاركة في معرض الكتاب العربي، سوف نقع على عدد وفير من الأسماء اللبنانية، من كتّاب في مختلف المجالات: الرواية والقصة والشعر والدراسة النظرية والمتابعة العملانية على الأرض بدون ان ننسى حجم حضور الكاتب اللبناني في أوساط قرائه. تساوى في المثل الأول في مبيعات كتاب الشعر، في معرض الكتاب الأخير، الشاعر زاهي وهبي: في تعريف القبلة مع دواوين محمود درويش الكاملة. هذه اشارة إلى حجم متابعة الكاتب كتابه في لبنان، وهو كتاب تزداد اعداده باطراد. نشير إلى ذلك لكي نؤكد الدور الذي تلعبه تواقيع الكتاب في معرض الكتاب العربي. إننا امام عملية ثقافية، تجارية بالنسبة ذاتها.

كتاب بيروت
كتاب بيروت يبيع في بيروت، ولكن ما هي نسبة مبيعه في معارض الكتاب الاخرى، مع التأكيد على ان اختيار كتاب زاهي وهبي ليس الغرض منه التقليل من شأن الكتاب ولا من شأن الكاتب، بل قوة الكاتب على حماية كتابه، لحماية رأسمال تدفعه دار النشر في صالح إنتاج الكتاب.
لنعترف ان عملية إصدار الكتاب هي عملية اقتصادية، لذلك يحتار اصحاب دور النشر في معارض الكتاب الاخرى بهدف تحسين مبيعات الكتب الصادرة عن دورهم. إلا ان ذلك لم يعد يحدث إلا لماماً، لأن لكل معرض عربي ظروفه وشروطه، فعلى سبيل المثال تسود الفوضى العارمة عمليات تصدير الكتاب إلى معرض مصر، بحيث تضيع عشرات صناديق الكتب وهي في طريقها إلى معرض الكتاب في مصر. لن يجد صاحب الكتب كتبه في رحلات الاسئلة الطويلة حولها. لن يدري أحد إلى أين تقاد صناديق الكتب ولا اين توضع وكيف تختفي وماذا يفعل بها عند اختفائها.
تفضل مسؤولة الدار عدم ذكر اسمها، وهي تروي دراما عدم وصول الكثير من الكتب إلى معرض الكتاب في القاهرة. تلك قضية خطيرة (تقول) لأن عدد الكتب المغدورة سوف تهز التوازن المادي لأي دار نشر مشاركة في معرض، بحيث تعتبر الكتب الضائعة، كتب خسارة مادية لن يستطيع احد تعويضها مبيعات الكتب الاخرى. «تعادل» يميل في صالح ان الدار لن تربح من معرض دخلت إليه بخسارة سابقة على الدخول. يروي البعض هنا ان عمليات إضاعة الكتب هي عمليات مقصودة بحيث لا يبدو الكتاب ممنوعاً أو مصادراً بل ضائعاً في تلك المسافة الفاصلة بين بلدين. إنه حضور خفي لجماعة النهي عن المنكر في معرض السعودية الدولي للكتاب حيث بمستطاع أفراد المجموعة هذه ان يصادروا أي كتاب تحت أي ذريعة أو حجة، هكذا صودرت كتب من دار الآداب وكتب من رياض نجيب الريس وكتب من دار الساقي وكتب من دور اخرى.

سوق الكتب
لن يعمل الناشر اللبناني حساباً كبيراً لمعارض الكتب العربية، ليس فقط بسبب الواقع الداخلي لمعارض الكتب العربية هذه، بل بسبب الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية المتأزمة في العالم العربي. سدت سوق الكتب في مشرق العالم ومغربه وخليجه، ففي الذكرى الثانية على انطلاق الثورة التونسية لا تزال الاضطرابات تعّم بلداتها، حتى وصل الأمر بجمهور احد الاحتفالات إلى رشق الرئيس التونسي المرزوقي بالحجارة والبندورة. هذا من جهة، من جهة اخرى لا تزال المليونيات المتصادمة تحتل ساحات وشوارع القاهرة والاسكندرية ولا يزال الوضع متفجراً في العراق والبحرين، كما لا يزال قلقاً في الكويت مع تظاهرات المعارضة الأخيرة، وفي الجزائر وفي السعودية والأردن وسوريا الملتهبة. خسر الكتاب معابره إلى القارئ العربي. يتفق الناشرون على ذلك، ولا يجدون ثمة متغيرات في الوقت القريب او المنظور إذن يراوح الكتاب إلى حد كبير في بلد إنتاجه، إلا في الامارات العربية المتحدة حيث تلعب الحكومات المحلية والحكومة المركزية هناك دوراً في حماية مفهوم النشر بشراء الاصدارات في خلال المعارض، وخصوصاً في معرض الشارقة الدولي للكتاب حيث يعمل حاكم الامارة محمد القاسمي على شراء كميات كبيرة من الكتب المعروضة في بادرة حضانة وحماية للكتاب. بعدها توزع الكتب هذه على المكتبات الكبرى والصغرى وعلى الجمعيات وبعض الأفراد المحتاجين.
واقع الكتاب بهذا المعنى، واقع بلا أفق لن تكتب مصر في فوضى مصر. ولن يقرأ العراق في محنته، في حين تبقى بيروت ولادة الكتاب العربي من دون منازع وبأبهى الحلل، ولو ارتفعت اسعار الكتب بسبب ارتفاع أسعار الورق وكلفة الطباعة وارتفاع قيمة اليد العاملة في هذا المجال، مع تحولها إلى جماعة صغيرة متخصصة.
لن يغيب في هذا المجال ان السلطات الجديدة في العالم العربي تحاول ان تداري جراح أيامها بكل شيء إلا بالكتاب. ومع ارتفاع اسعاره باتت دور النشر متحفظة على بعض احجام الكتب لا عناوينها. هكذا لم تعد الدور تطبع كتباً ضخمة او مجلدات، او تلك التي ذات قيمة خصوصا في خضم الأزمة الاقتصادية بشقيها المعلن والسري في لبنان. لا رغد اقتصادياً بعد في لبنان، قال النائب وليد جنبلاط، نذير بما ينتظره البلد في الايام المقبلة، لذا يتوقع ان تنعكس هذه الأزمة أكثر على واقع الكتاب في لبنان، وهي أزمة تعطف على ازمات. كتاب لبنان في أزمة، لن يتخطاها إلا بالإجابة على اسئلة بحاجة إلى قراءة هادئة للأوضاع في لبنان وخصوصاً على صعيد تأثره بتداعيات الأزمات الضارية في محيطه.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى