المأزق الروسي الأميركي من “جنيف” إلى “كييف” (هاني شادي)

 

هاني شادي

بالرغم من الفشل الواضح لمؤتمر "جنيف ـ 2" بعد جولتين من المفاوضات بين الحكومة والمعارضة، إلا أن موسكو ترفض الإقرار بذلك وتدعو إلى عدم التسرع في الحكم بالفشل على المؤتمر، وتدعو أيضاً إلى مواصلة التفاوض. ومن المفهوم جيداً لماذا تنزعج موسكو من ذلك، فهي التي تصدرت مشهد التسوية السورية بالرغم من أن المبادرة كانت روسية أميركية وليست روسية فقط. ولكن نتيجة لإصرار الوفد الحكومي السوري على أن المهمة الرئيسية خلال المفاوضات تكمن في مكافحة الإرهاب، وإصرار المعارضة على عملية تسليم السلطة وتشكيل الحكومة الانتقالية وعدم مشاركة الرئيس السوري في الحكومة الانتقالية، دخل المؤتمر في طريق مسدود.
الروس حمّلوا المعارضة المسؤولية لأنها لم تُوسع وفدها إلى المفاوضات، ولأن بعضها لا يزال يراهن على الحل العسكري. وفعل الأميركان عكس ذلك بتحميلهم النظام السوري كل المسؤولية عن الفشل وطالبوا موسكو بوقف دعمها للأسد، ملمحين إلى احتمال تقويتهم من جديد لبعض عناصر المعارضة عسكرياً. ومن ينظر إلى لوحة الأزمة السورية متعمقاً، سيجد أن المجتمع الدولي، وفي مقدمته روسيا والولايات المتحدة، يعاني من العجز السياسي في التعاطي مع تلك الأزمة. فلا موسكو قادرة على تمرير قرار من مجلس الأمن الدولي لمكافحة الإرهاب في سوريا، ولا واشنطن تستطيع تمرير قرار يتعلق بالمساعدات الإنسانية، لأن الروس يعتقدون أن مثل هذا القرار في صيغته المطروحة على أعضاء مجلس الأمن سيعني التدخل الإنساني الدولي، وسيسمح بدخول المزيد من السلاح إلى الجماعات المتطرفة في سوريا. ونتيجة لهذا العجز الدولي بدأت ترتفع بعض الأصوات في صفوف المعارضين السوريين تنادي بدور للقاهرة في التسوية السورية بعد التقارب الروسي المصري الأخير. ولكن هل يمكن أن يحدث ذلك في ظل الأوضاع التي تمر بها مصر حالياً؟ بالطبع، لا توجد إجابة شافية على مثل هذا السؤال.
والواضح تماماً أن المأزق الروسي الأميركي في "جنيف" بات واضحا للعيان، ويعبر عن نفسه في مناوشات بين موسكو وواشنطن بشأن أولويات المؤتمر وجدول أعمال المفاوضات، ومن خلال الاتهامات المتبادلة. لقد عبرت روسيا والولايات المتحدة قبيل مفاوضات "جنيف" عن "تفاؤل كبير" وشددتا على ضرورة بدء الحوار السوري المشترك مهما كان الثمن. ولقد تبخر هذا التفاؤل الآن، ومن غير المعروف كيف يمكن الحصول على دفعة جديدة للمفاوضات. وكما يبدو من التصريحات الأخيرة تعتقد واشنطن أنه يجب الضغط أكثر على الأسد وتهديده بتوسيع المساعدات العسكرية للمعارضة وباحتمال توجيه ضربات عسكرية ضد نظامه. ومن جانبها ترى موسكو أن هذا الطريق عقيم وسيؤدي إلى نتائج عكسية، لأن مثل هذه التهديدات والأفعال لن تؤدي، في غالب الظن، إلى إخافة الرئيس السوري. ويرى الخبير الروسي، فيودور لوكيانوف "إن الأسد خرج باستنتاجات من أحداث الخريف الماضي، وهو تقريباً على ثقة من أن الأميركيين يخادعون وعاجزون عن العمل العسكري. وينصح لوكيانوف الولايات المتحدة بنقل ضغوطها من الأسد إلى العمل الوثيق أكثر مع المعارضة وإبلاغها بما يمكن طلبه من السلطة السورية وما لا يمكن طلبه، انطلاقاً من الوضع الواقعي على الأرض. كما ينصح روسيا بالتعامل مع الأسد بصرامة أشد لكي يوافق على هذه المطالب أو تلك المقدمة من جانب المعارضة من أجل العثور على قواسم مشتركة بين الجانبين. ويعتقد الخبير الروسي أيضاً بأنه في حال تمسك موسكو وواشنطن بموقفيهما الراهن، فقد يخرج الوضع في سوريا من تحت السيطرة بشكل نهائي.
في ظل فشل مؤتمر "جنيف ـ 2" أو وصوله إلى طريق مسدود، انتقل المأزق الروسي الأميركي إلى "كييف" المنغمسة منذ الخريف الماضي في صراع على السلطة بين الرئيس يانوكوفيتش وأنصاره أصحاب "الطريق الروسي" في التطور، وبين المعارضة وأنصارها أصحاب "الطريق الأوروبي الغربي". وفي الحقيقة أوكرانيا تعيش منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، مرورا بـ"الثورة البرتقالية"، هذا الصراع على خلفية انقسام المجتمع مناصفة تقريباً بين هذين الطريقين. ولكن هذا الصراع اتخذ أبعاداً جديدة وخطيرة وأسفر عن قتلى وجرحى بأعداد غير قليلة مؤخراً. ويتشابك هذا الصراع الداخلي في أوكرانيا مع تدخلات خارجية مباشرة وغير مباشرة من واشنطن وموسكو وبروكسل، مع أن الجميع ينادي بعدم التدخل في الشأن الأوكراني الداخلي. فقد حملت واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي مسؤولية ما جرى في "كييف" من مقتل 25 شخصاً وجرح العشرات إلى يانوكوفيتش، بينما أعتبر الكرملين أن المسؤولية عن ذلك العنف تقع على المعارضة، وتحديداً على العناصر المتطرفة في صفوفها، التي تعمل، حسب موسكو، على قلب نظام الحكم. ولذلك تشجع الرئيس الأوكراني وأعلن حملة لمكافحة «الإرهاب» بعد أن استولت عناصر من المعارضة على أسلحة ومبان حكومية وأمنية عديدة في غرب أوكرانيا. وتنتمي معظم تلك العناصر المتطرفة إلى التيار القومي الأوكراني اليميني المتشدد، الذي يعادي روسيا تاريخياً، ويرفع شعار "أوكرانيا للأوكرانيين". فأحداث العنف الأخيرة في "كييف" أظهرت أن سلطة الزعماء الليبراليين في صفوف المعارضة أخذت تفلت من أيديهم، حيث بات واضحاً أن هؤلاء الزعماء يفقدون سيطرتهم تدريجياً على الجزء الراديكالي من المعارضة. وبات هذا الجزء الراديكالي يصف قيادات المعارضة الليبرالية بـ"راقصي الميدان"، ومن ثم شرعت هذه القيادات الليبرالية في مغازلة القوميين الراديكاليين بشكل صريح. ويبدو أن الليبراليين في أوكرانيا أصحاب الطريق "الأوروبي الغربي" يراهنون بدرجة كبيرة على الوصول إلى السلطة بمساعدة هؤلاء القوميين الراديكاليين، وهو ما يزعج الكرملين كثيراً، سواء من المعارضة الأوكرانية الليبرالية المتهمة روسياً بالموالاة للغرب أو سواء من القوميين المتشددين في أوكرانيا. ولذلك من غير المستبعد أن يتجه المأزق الروسي الأميركي في أوكرانيا إلى المزيد من التصعيد، كما هو الحال حالياً لهذا المأزق في "جنيف". ولأن هذا المأزق انتقل إلى عقر دار روسيا (أوكرانيا)، فمن غير المستبعد تحوله إلى أكثر من مأزق مستقبلا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى