المشربية .. زخرفة معمارية ضوئية

 

وكالة الصحافة العربية

المعماري الراحل حسن فتحي: إذا تكلمت عن المشربية يتهمونك بالتأخر، وأنك تريد العودة إلى عصر الحريم. فلا أحد يقدر قيمة المشربية.

المشربية هي بروز الغرف في الطابق الأول أو ما فوقه يمتد فوق الشارع أو داخل فناء المبنى، وهو مبني من الخشب وعليه نقوش وزخارف ومبطن بالزجاج الملون. وتعتبر المشربية إحدى عناصر العمارة التقليدية في الدول العربية، بدأ ظهورها في القرن السادس الهجري "الثالث عشر الميلادي" أثناء العصر العباسي، واستمر استخدامها حتى أوائل القرن العشرين الميلادي. وتستخدم المشربيات الآن في القصور والفنادق والمباني السياحية والبيوت التقليدية.

• الأصل والتسمية
انتشرت المشربية في فترة العصر العباسي واستخدمت في القصور وعامة المباني وعلى نطاق واسع، إلا أن أوج استخدامها كان في العصر العثماني حين وصلت إلى أبهى صورها وانتشرت انتشارًا شبه كامل في العراق والشام ومصر والجزيرة العربية.
سُميت بأسماء مختلفة في مناطق مختلفة، يعتبر اسم المشربية منتشرًا في مصر، ويقال إن أصله مشربة؛ لأن قلة الماء أو المشربة كانت توضع فيه، ويقال أيضًا أن أصل الكلمة هو مشرفية لإشراف أهل البيت على الشارع منها، ثم تحورت حتى أصبحت مشربية. وتدعى المشربية في بعض الدول الإسلامية روشن، وتُسمى في اللهجة العراقية شنشول (جمعها شناشيل).
لقد منحت المشربية الإحساس بالأمان النفسي والبعد عن حرارة الشمس حتى عيون الشمس الحارقة في الصيف لم تكن يمكنها أن تنفذ إلى البيت، إلا من خلال العيون الصغيرة في المشربية فتشكل لوحة جميلة من الطبيعة تتيح للنساء أن يجلسن في بهجة، ويتابعن أحاديثهن ومرحهن ويتطلعن من وراء المشربية يرقبن ما يحدث في الشارع دون أن تقع عليهن عين. وهذا يمثل قيمة أخلاقية ترتبط بالعادات والتقاليد، حيث لم يكن يسمح لأحد بمخاطبة أو رؤية حريم البيت.

• زخرفة ضوئية
يقول المعماري الراحل حسن فتحي في أحد احاديثة الصحفية: "إذا تكلمت عن المشربية يتهمونك بالتأخر، وأنك تريد العودة إلى عصر الحريم. فلا أحد يقدر قيمة المشربية. فخلف المشربية هناك الجدران وهناك السماء. إن انعكاس الألوان من خلال المشربية ينتج زخرفة رائعة مما يزيد في أهميتها. لي صديق كتب أطروحة عن المشربية. يقول: إذا أردتَ أن تقيِّم المشربية علميًّا هناك ناحيتان: الأولى هي أن المشربية نظارات تخفف لهيب الشمس، والثانية هي زخرفة. فوظيفة المشربية ضوئية وجمالية.

• أين المشربية؟
أين المشربية الآن؟ لقد اختفت تمامًا عن عيون العمارة الحديثة وذهبنا إلى التصاميم الغربية، حيث بدأت العمائر الشاهقة والأبراج التجارية والسكنية تحتل مكانة كبيرة في شوارع ومدن العالم العربي، ونظرة واحدة في دبي أو الرياض أو الكويت أو القاهرة سوف تصدمك تلك العمائر الرهيبة والتي تثير في روحك الإحساس بالغربة والضياع.
أين الآن هذا البيت الهادئ القديم الذي لا يكشف عن أهله بل يخفي العيون عن النظر إليهم؟ فقد كانت المشربية أقرب إلى الحجاب للبيت، حيث يمكن للنساء أن يتابعن أحداث الخارج ويشاهدن العالم الخارجي بكل سهولة وهذا سر المشربية.. ظلت المشربية شكلًا من أشكال الجمال في البيت القديم عند انتشارها الواسع في العالم العربي والإسلامي، ولم تكن حاجزًا يفصل بين الخارج والداخل، بل قطعة تواصل صنعت من خشب يمكن تبديله أو تغييره ببساطة كلية إذا ما دعت الحاجة إلى ذلك، وليس من حجر يغلق التواصل المطلوب بين ما في الداخل وما في الخارج. وفضلًا عن ذلك كانت المشربية ولا تزال قطعة مميزة تضيف إلى البيت الجميل جمالًا، وهذه الإضافة كانت ترمز إلى مدى حرص المشربية على توفير الراحة والأمان لأهل البيت.

• جماليات العمارة
أفرزت العمارة الإسلامية القديمة بدائع الفنون الجمالية للأبنية، وأظهرت عبر تاريخ ممتد شيد خلاله الكثير من القصور للأمراء والملوك العرب قدرة أنيقة وإتقانًا جمًّا يحيط بها، يتبعه سحر أنيق من روح السماحة الإسلامية، ومهنية تفوق حرفيي الروم والفرس والحضارات القديمة الأخرى. وكان أهم جماليات العمارة الإسلامية "المشربية" التي مثلت الحصن الواقي الذي كان منبعًا دينيًّا وحرصًا أخلاقيًّا، إلا أنها تواجه الآن تحديات الحضارة البلاستيكية وما صنفته من عمارة حديثة توفر بدائل أخرى يمكن الاستعاضة خلالها بالمشربية، فضلًا عن انعدام موادها في مناطق متفرقة، وضعف خبرة حرفييها في هذه الأماكن، إلى جانب عوامل أخرى ساعدت على أن تتآكل جذورها في الجزيرة العربية.. غير أنها رغم ذلك عادت بقوة إلى البيوت المغربية.
إذا كانت العمارة مرآة لبعض واقع المجتمع، فإنها تعكس ظروف البيئة المناخية، والقيم الاجتماعية والذوق الفني للمجتمع، لذلك فإن مفردات العمارة ترمي إلى تحقيق وظائف عملية كالسيطرة على ظروف مناخ أو على الأقل تلطيفها أو التخفيف من حدتها، وجعل المأوى متوافقًا مع آداب العلاقات الاجتماعية ومقتضياتها غير أن الوظائف الجمالية لا تقل أهمية؛ لأن الإنسان مهما قل شأنه أو عظم.. مفطور على حب الجمال في العمارة وسائر مناشطه الحياتية، والمشربيات كعنصر من عناصر العمارة السكنية لا تخرج من هذا المفهوم.

• مكونات المشربية
ويحدثنا فرج فضة رئيس قطاع الآثار الإسلامية والقبطية بالمجلس الأعلى للآثار بمصر عن المشربية: بأنها عبارة عن تجميع للخشب المخروط من قطع صغيرة لتكوين أشكال هندسية ونباتية وكتابية مختلفة.. وكانت تصنع منه أيضًا الشرفات والأحجبة لتغطية الفتحات والنوافذ للحفاظ على حرمة أهل المنزل من أنظار الغرباء، وتسمح في الوقت نفسه بمرور الهواء والضوء، وكانت توضع في تلك الشرفات الأواني للشراب لتبريد الماء من تيار الهواء بالشرفة، ومن ثم عرفت في مصر باسم "المشربية".
ويضيف قائلا: إن المشربية لها خمس فوائد الأولى هي ضبط درجات الحرارة؛ ففي الصيف تلطف المكان مما يساعد مستخدمي المكان على فقد الحرارة من أجسامهم؛ حيث يدخل الهواء البارد نسبيا إلى الغرف. أما في الشتاء فإن فتحاتها تكون مواجهة لأشعة الشمس وبالتالي يزيد ذلك من درجة حرارة الداخل ويشعر السكّان بالدفء.
الفائدة الثانية هي ضبط مرور الضوء من خلال المسافات الفاصلة وحجم قضبان مناسب للمشربية التي تغطّي فتحة في الواجهة بحيث تعترض الإشعاع الشمسي المباشر، أما الفائدة الثالثة فهي ضبط تدفّق الهواء؛ حيث توفر المشربية ذات الفتحات الكبيرة الواضحة فراغات أكبر في المشبك، مما يساعد على تدفق الهواء داخل الغرفة، أما عندما تتطلب اعتبارات الإنارة فتحات ضيّقة لتقليل الإبهار، فإن تدفّق الهواء ينقص بشكل ملحوظ. أما الفائدة الرابعة فهي زيادة نسبة رطوبة تيّار الهواء فالخشب المستخدم في المشربيات يمتص ويرشح كميات معقولة من الماء بسهولة تامة طالما لم يتم تغطيتها أو دهنها، يفقد الهواء المار من خلال المشربية الخشبية المنفذة بعضا من رطوبته وذلك بامتصاص القضبان الخشبية لها إذا كانت معتدلة البرودة، أما الفائدة الخامسة فهي توفير الخصوصية للسكان حيث توفر المشربية الخصوصية للسكان، مع السماح لهم في الوقت ذاته بالنظر إلى الخارج من خلالها وهذا يدعم استخدام المشربية ذات الجزأين، حيث يضمن الجزء السفلي الخصوصيّة، في حين يتم تدفّق الهواء عبر الجزء العلوي منها.

• خصائص متميزة
ويحدد عثمان عزمي، مدير عام القصور المتخصصة لهيئة قصور الثقافة خصائص المشربية في بعض النقاط التي كان من أهمها: إذا كانت المشربية جزءًا من التكوين المعماري.. ساعدت على مرور توزيع الضوء، فجعلته خافتًا وهادئًا، وسمحت بمرور نسيم الهواء ويسرت النظر إلى الخارج دون أن تتمكن العين الفضولية العابرة من النفاذ إلى الداخل.. كما أن المشربية تسهل دخول نور الشمس إلى الجهة الخلفية؛ لأنها تخترقها فجوات، هذا بالإضافة إلى إنها سهلة التغيير بحيث يمكن تبديلها من مكان إلى آخر، وذلك حسب رغبة الشخص، مما يجعل الغرفة تأخذ شكلًا جديدًا، تبعدنا بالتالي عن طابعها الروتيني.
وقد أصبح مجال استعمال المشربية في تزايد مستمر، ففي البيوت تستعمل كفارق أو كفاصل لقاعة كبرى يخصص فيها جانب للرجال وآخر للنساء؛ وذلك حفاظًا على الوقار والحشمة، فهي تحجب الرؤيا من بعيد نظرًا لطابعها الخاص. وفي المساجد كانت المشربيات تُستعمل كحاجز بين الجناح الخاص بالنساء والآخر المتعلق بالرجال، ولا يزال استعمالها يسود حاليًا في أغلبية بيوت الله، هذا بالإضافة إلى بعض القصور والفنادق التي تحرص على وجود المشربية.

• البيت المغربي
وعن مدى اهتمام المغاربة بالمشربيات يضيف: يختلف شكل المشربيات بتنوع اختلاف الأذواق والرغبات، فهي إما تكون مصنوعة من الخشب المخروط أو المنقوش، أو قد يتم المزج بين هذين النوعين.. لقد أصبحت المشربيات في الوقت الراهن جزءًا لا يتجزأ من البيت المغربي الذي روعيت فيه الأصالة والمعاصرة. كما أصبح استعمالها أكثر اتساعًا، فهو لم يعد يقتصر على البيوت الكبرى، والمقاهي والشبابيك البنكية والعيادات الطبية وغيرها، وذلك تشجيعًا للمنتوج التقليدي الأصيل الذي يعطي للسياحة بالمغرب طابعًا متميزًا مما ينعش الاقتصاد.
كما يشار إلى أن جميع العائلات المغربية، أصبحت حاليًا تمزج بين الأصالة والمعاصرة في تصميم وتأثيث بيوتها، بحيث أصبح استعمال المشربيات ينتشر بكثرة ويعطي للبيوت المغربية رونقًا وجمالًا يعكس ما أبدعته يد الصانع المغربي في الجزيرة العربية.

• مشربيات الجزيرة
وعن وجود المشربية في الجزيرة العربية يوضح د. خليفة ابراهيم أستاذ الهندسة المعمارية، أن المشربيات في جزيرة العرب على الرغم من أن المواد الخشبية التي تستلزم صناعتها لم تكن متوفرة بشكل كافٍ في البيئة المحلية، إنما تستورد من الخارج، أما المهارة الفنية فقد حذقها الحرفيون المحليون، واختلفت أحجامها وفقًا لجودة المواد والصنعة، ففي مساكن ذوي اليسار كانت المشربية تغطي جزءًا كبيرًا من واجهة المنزل تمتد أفقيًّا من فوق الباب الرئيس إلى قمة المنزل في آية من الجمال الهندي.
وينوه إلى أن المشربية في الجزيرة العربية كمفردة معمارية بدأت تتلاشى منذ منتصف القرن الماضي، وكادت اليوم تنعدم من المباني الجديدة إلا ما كان المراد منها لفت الانتباه إلى التراث المعماري الذي تقوم بها الجهات الرسمية، وأسباب اختفائها ترجع إلى انعدام مبررات وجودها، أو الاستغناء عن وظائفها بعد أن توفرت في متناول الجميع سبل تقنية بديلة.
فالمشربيات كانت تساعد على تلطيف الأجواء داخل المنزل بما تتيحه من تيارات هوائية.. وتعمل جرة فخارية مملوءة بالماء الذي يتبخر من مساماتها الخارجية على نشر البرودة، كما يتبرد الماء في الجرة ليرتوي منه العطشان، إن إحلال المراوح الكهربائية أولًا ثم أجهزة التكييف والبرادات وفر بدائل أفضل لتوفير الهواء العليل والماء البارد. وكانت المشربية قديمًا توفر الإضاءة الطبيعية للمنزل، لكون أشعة الشمس تنفذ من خلالها، لكن الخدمات الكهربائية الحالية، لاسيما أنها رخيصة نسبيًّا وفرت البديل الأفضل، إذن، أنها من النواحي العملية لم تكن مزاياها قادرة على منافسة أداء وسائل ميكانيكية أكثر فعالية، أما من الناحية الجمالية للمشربية فلعل الحياة المعاصرة لم تعد تتذوق هذا النوع من الحرف، ولربما يعود ذلك إلى اختلاف المقاييس، ولعل معطيات الحضارة قد مدتهم ببدائل أخرى – مثلًا – قد أتاحت مادة يمكن أن تكسو بها الجدران الخارجية للمباني بجمال رائق، وعمومًا كان الاتجاه منذ عقود إلى الأخذ بتقنيات البناء الحديث، الذي فرض معه نقل طرز معمارية من خارج البيئات العربية الذي ارتبط في البداية بفهم المعاصرة على أنها الأخذ بالعمارة الغربية، وربما نظر إلى العمارة التقليدية على أنها من علامات التخلف، لكن حركة الإحياء السائدة حاليًا أعادت بعض التوازن، والعقلانية، وأثارت اهتمامًا وحماسًا تجاه العمارة التقليدية؛ لكونها ترتبط بهوية المجتمع وشخصيته.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل يمكن إحياء المشربية كمفردة معمارية شائعة؟
يجيب عن هذا السؤال د. خليفة ابراهيم قائلًا: ليس بالسهولة يمكن عودة المشربية في بلاد الجزيرة العربية إلى ما كانت عليه في السابق من انتشار، لكن يمكن إعادة المشربيات إلى العمارة بشكل مختلف قليلًا ومتطور من التقليد القديم، ولأغراض ووظائف محدودة، أو غير تلك التي كانت تؤديها في الماضي، فالتهوية وإدخال حرارة الشمس إلى المبنى – كإحدى وظائف المشربيات – لا تزال ممكنة في فصل الربيع القصير، ولعل من الناحية الجمالية للمشربيات تكون من المداخل المهمة إلى إعادتها إلى واجهات المباني، إذ يمكن مثلًا جعل المشربيات أغطية جميلة لبعض المرافق المنزلية التي تبرز إلى الخارج، كأن تكون أغطية لأجهزة التكييف ولا شك أن المعماريين العرب والمسلمين أكثر قدرة على إسناد وظائف زخرفية للمشربيات.

• غزو معماري
كان للغزو الثقافي والفكري للتراث الحضاري للعالم العربي أثره البالغ في ظهور العمارة الحاضرة، هذا ما يؤكده د. صالح لمعي مصطفى أستاذ الهندسة المعمارية في جامعة بيروت العربية؛ الذي يصف العمارة الحديثة:
بأنها لم يُراعَ فيها الإخلاص العمراني للأنماط التراثية، سواء من حيث الشكل أو المظهر أو المضمون، وبذلك فقدت المدينة نكهتها البيئية من تأثير الانطلاق العشوائي حسب الأهواء بدون قواعد ولا أصول.
ويضيف: إنه في بداية القرن العشرين وخلال فترة الاحتلال الإنجليزي لمصر ظهرت بعض المحاولات خلال فترة إيقاظ الشعور الوطني في عمل مبانٍ، حافظت فيها العمارة الحاضرة على خصائصها المحلية في استعمال المفردات التراثية في التشكيل، وعلى الأخص المشربية.
ويحذر د. لمعي: من أن العمارة بالمنطقة العربية تواجه تحديًا ضخمًا؛ مما يستدعي ضرورة وضع تصور وخطط تؤدي إلى الحفاظ على الأصالة العربية، واستمرارية التطور المعماري والعمراني بطريقة تجمع بين القديم والجديد في أسلوب يتناسب مع العصر الذي نعيشه، ويتوافق مع مواد وطرق الإنشاء الجديدة باستعمال رشيد لصالح المجتمع العربي المعاصر.

ميدل ايست أونلاين

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى