المهاجرون في أوروبا: النكران وسياسة الاعتراف

لا تستطيع فرنسا أن تستقبل كل بؤس العالم، ولكن عليها أن تعرف أخذ حصتها من النزاهة». توجز هذه العبارة الشهيرة لرجل الدولة الفرنسي الراحل ميشال روكار معضلات كبرى بشأن تاريخ الهجرات من العالم الثالث إلى الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا.
تُعدّ موجات الهجرة غير الشرعية نحو الغرب الأوروبي في العامين الماضيين الأضخم منذ الحرب العالمية الثانية، وقد فتحت الباب أمام قضايا معقدة، يرتبط جزء منها بما تنتجه الحروب والنزاعات والفقر والبطالة من فقدان الأمل لدى شرائح اجتماعية واسعة في البلدان الطاردة.
في «نكران الثقافات» (ترجمة: سليمان رياشي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، الطبعة الأولى، 2016) يقدم عالِم الاجتماع الفرنسي هوغ لاغرانج أطروحة علمية عن مشكلة إدماج المهاجرين العرب والأفارقة والآسيويين في الدول الأوروبية، مستنداً إلى التحليل السوسيو ـ ثقافي والسوسيو ـ اجتماعي، لفهم سياسات التهميش والعزلة التي يعيشها بعض المهاجرين.
نشر لاغرانج الأستاذ والباحث في «المركز القومي للبحوث العلمية» و «معهد العلوم السياسية» في باريس، عدداً من الكتب نذكر منها: «المواطنة المدنية تحت الاختبار»، «حياة المهاجرين من الساحل إلى المنطقة الباريسية»، «التوترات المدينية والاحتجاجات: خاصية فرنسية». يسجل سليمان رياشي في تقديمه بعد عرضه أبرز فصول الكتاب ملاحظتين: عدم تخصيص الكاتب حيزاً وازناً وبارزاً للإشكالات الخــــاصة بالمغرب العربي، وعدم تعرضه الوافي للمرحلة الاستعمارية الفرنســـية، لجهة غربلة هذا الإرث بما يؤسس له من مصالحة حقيقية بين فرنسا وشعوب المستعمرات السابقة.
تنهض الفرضية المركزية للكتاب على أنه «إذا كان هناك اليوم مشكلة ثقافية فعلية في أحياء الهجرة، فهي لا تتمثل بثبات ثقافات الأصل، بقدر ما تتمثل في المعايير والقيم المتولدة من الصـــدام مع مجتمعات الاستقبال». يتحرى لاغرانج عن أسباب رفض الاعتراف بالبُعد الثقافي للمشاكل الاجتماعية، كالبطالة والفقر والأمية، بين الأفراد والعائلات الآتية من المغرب العربي وأفريقيا الساحل وخليج غينيا وتركيا. يلاحظ «أن نكران الثقافات هذا ليس موجوداً على مستوى الآراء الشائعة والنقاش العــــام فحسب، بل إنه يمسّ أيضاً البحث الأكاديمي وعالم العارفين. فانحــــيازات التقليد السوسيولوجي الفرنسي، تدفــــع، على وجه خاص، إلى تجنب هذه المقولات أو إلى الالتفاف علـــيها. وهنا أيضاً، بدل الاعتراف بالبُعد الثقافي لرهانات مجتـــمع ما بعد قومي، غالباً ما نخدع أنفســـنا بشأن طبيعتـــها وحوافزها والعلاجات التي يمكن أن نقدمها».
يناقش لاغرانج مسألة مهمة على علاقة مباشرة بالتوجس الأوروبي خصوصاً الفرنسي تجاه المهاجرين، إذ يشير إلى التحولات الثقافية إبان العقود الأخيرة وما تركته من آثار مؤلمة أنتجت ما يسميها «الردّة الأخلاقية» على الإرث الأوروبي لثورة الأنوار؛ لقد «تغيرت في أقل من نصف قرن القيم والأولويات، فانحسار التّوق إلى الحرية والنزعة المحافظة الجديدة، كانا جزئياً ثمرة داخلية في المجتمعات الغربية»، وأدت المخاطر المترافقة مع العولمة وغياب القدرة على تحديد مساراتها، وتنامي العودة إلى التدين وبروز الأحزاب اليمينية والشعبوية إلى زيادة الهواجس الأوروبية من الثقل الديموغرافي والاجتماعي والديني والعرقي للمهاجرين. كل تلك العوامل وغيرها فتحت المجال أمام النزوع النرجسي نحو «الذاتية» و «الأنا المتورمة»، وفق صيغة الباحث والمحلِّل النفسي الفرنسي بيار هنري كاستل (Pierre ـHenri Castel).
تزايدت حدة سياسات الرقابة الصارمة التي تتبعها الدول الأوروبية إزاء المهاجرين منذ بداية الثمانينيات من القرن المنصرم، بالتزامن مع صعود المشاعر الشعبوية. هذا السعي الأوروبي الرسمي يمكن النظر إليه من زوايا متقاطعة: الخوف العام من التوترات الثقافية التي يمكن أن يطلقها «العداء للأجانب»؛ التحول العميق في المناخ الأخلاقي وفي القلق الشعبي المتنامي؛ اللامساواة بين الدول الغربية ودول الجنوب على مستوى الاقتصادي وتوزيع الثروات. لم يحل تفعيل «اتفاقات شنغن» دون تزايد معدلات السكان الأجانب في أوروبا. يلفت لاغرانج إلى أن «بلداناً ثلاثة في جنوب أوروبا، إسبانيا وإيطاليا والبرتغال، التي كانت الجماعات الأجنبية فيها ضعيفة العدد، عرفت انقلاباً في معدلات الأجانب ابتداء من سنة 2000». يؤرخ للترتيبات التقييدية بالأوقات التي مارس فيها اليمين السلطة، ففي عام 1978 تمّ وضع آلية العودة بالقوة التي كانت تعني إعادة نصف مليون مغاربي إلى بلدانهم الأصلية. وفي بداية عام 1981، جعل قانون بونيه الدخول إلى فرنسا أكثر تشدداً. وشكلت كل المراحل التي كان فيها اليمين في السلطة، فرص هجوم تستهدف إغلاق الدائرة: قوانين بشأن شروط الدخول في عام 1986، تعاميم تخول مديري النواحي حق ممارسة الإعادة إلى الحدود، طائرات النقل، والتنديد بأوجه استغلال اللجوء.
يدرس لاغرانج الأرضية الأبعد للإشكاليات التي يثيرها «نكران الثقافات» في حواضر الهجرة الأوروبية. أسس انغلاق الإسلام والمد الإسلامي الأصولي والسلفي في بلدان الجنوب، وتحديداً في الدول العربية، لتصدير المفاهيم التقليدية والهويات الدينية والبطريركية، نتيجة الصلات الوثيقة للمهاجرين مع عالمهم الذي تركوه؛ فبعدما كان الأجانب يجتهدون في اكتساب خصائص الهوية الأوروبية، باتوا اليوم أشد تمسكاً وتمرساً في «غيريتهم»، «ففي العقود الأخيرة حصل خلاف هذا في أحياء المهاجرين: انطواء أخلاقي، تضييق على حرية اللباس والسلوك، تراجع في علاقات الاختلاط بين الجنسين في سن المراهقة، وتطلبٌ لفصل النساء في الأماكن العامة».
لا يتخذ لاغرانج موقفاً حدِّياً في فهمه لهذه الظواهر في الدول الأوروبية، بل يعمل على تحليل تمثلاتها الثقافية والديموغرافية، مقارباً بشكل دقيق وحيادي أوضاع الجماعات المهاجرة وأشكال استقرارها في المتحدات أو الضواحي المنعزلة. تطرق إلى مسائل رئيسة عن المهاجرين ـ خصوصاً العائلات الأفريقية ـ معززة بالإحصاءات والجداول الاستبيانية: البطالة، الأمية، الرسوب المدرسي، الانحراف، صعوبات الاندماج المهني، تطور معدلات الخصوبة، الفصل بين الجنسين. من المعطيات التي يخلص إليها الكاتب «حجم الإكراه» في العلاقة بين الجنسين فيقول: «الهوية الجنسية، كما تم بناؤها في سياق الإقامة في الأحياء، تفرض على المراهقين من الجنسين أن يتطوروا في عالم أحادي الجنس، بأكثر مما عليه الحال خارج الأحياء. والفرق بين الصبيان والبنات المنحدرين من الهجرة البطريركية، يتمثل في أن الصبيان هم ورثة إخفاق آبائهم، بينما البنات ورثة وعد بالتحرر. وهذا ينعكس على الديناميات المدرسية، وعلى تشجيع الانحــرافات، وعلى أشكال تبـعات الانتماء إلى الجنس».
وفي ضوء مؤشرات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يعانيها المهاجرون برزت ملامح «التأكيد الهوياتي» (الديني والإثني) وسط مجال جغرافي ثقافي تتنافس فيه الهويات بين «قيم الجمهورية الفرنسية» «وثقافات المهاجرين». كان الدين جزءاً من دينامية الهوية فـ «الشبان المنحدرون من هجرات أفريقيا الشمالية والساحل يوظفون الإسلام، ويتعرفون إلى أنفسهم بوصفهم مسلمين بمنظور تقريري وقارس أكثر مما كان عليه الحال عند أهلهم». يُدرج الكاتب هذا السلوك في إطار ردة الفعل على أنماط التاريخ الاستعماري وكراهية المسلمين في المجتمعات الغربية: «من نواحٍ عديدة، فإن هؤلاء الذين يُنظر إليهم على أنهم «سود» أو «عرب»، يتم التعامل معهم بالطريقة نفسها، فيما هم يتقاسمون تجربة مشتركة. وجوه من ســلوكهم هي ردٌ على الصــــورة الإجمالية المعاد إرسالها لهم. وهي صورة تؤلّف بين هويات متـــمايزة. ببساطة، إن التدقيق في الهويات يأتي وفق لون الجـــلد، وأوجـــه التمييز في التشـــغيل والعمل».
يميز لاغرانج بعد إنجازه التحليل السوسيو ـ ديموغرافي للمهاجرين بين «الاندماج» و «الإدراج»، مقرراً أن «البلدان الأوروبية التي باتت مع نهاية القرن الماضي مجتمعات متعددة ثقافياً (…) لم تعد تمتلك الانسجام الذي صنعه التاريخ من خلال أوجه إعادة التشكل وسياسات الدمج التعسفية». يحدد مصطلح الإدراج ـ وفق تعريف الكاتب الذي يصعب على القارئ أحياناً التقاط مضمونه ـ على النحو التالي: «يجب أن نعين بدقة رهانات الإدراج التي لا تكتفي بإدانة أوجه التمييز، بل تسمح لكيانات سوسيو ـ ثقافية بأن تعيش معاً ديموقراطياً (…) ويجب على برامج النضال ضد أوجه التمييز أن تُستكمل بترتيبات تشجع إدراجاً مؤسسياً للأقليات». يتطلب مفهوم الإدراج في «المجتمعات ما بعد الوطنية والمتعددة ثقافياً» ترسيخ سياسات التمييز الإيجابي في المجالين الاجتماعي والاقتصادي. والحال بأي تنوع يجب أن تعترف أوروبا؟ يعتبر لاغرانج أن الاعتراف بالاختلافات يجب ألا يقود إلى تصور التجزؤ الاجتماعي بوصفه حالة نهائية؛ فالاعتراف بالاختلاف يقضي بتشجيع عملية يعرفها علماء النفس جيداً: من أجل الالتقاء بالآخر على المرء أن يكون نفسه ويعترف بخصوصيته هو (…) في الجوهر يتعلق الأمر بالتسليم بأن الديموقراطيات ما بعد الوطنية هي هيئات جماعية ذات مسؤولية محدودة، تتفق على المبادئ المناقبية، وتضع موضع النقاش، التوجهات الأخلاقية من دون البحث عن مطابقة ما».
في حواره مع المحلِّلة النفسية الفرنسية (Anne Dufourmantelle) ضمن كتاب (De l›hospitalité) يرى الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930 ـ 2004) «أن قانون الضيافة يملي ترحيب المضيف بالضيف دون أن يطرح عليه أي سؤال، بما في ذلك اسمه أو أصله، وأن يطلب منه شيئاً في المقابل مهما كانت الظروف. وتمكّن الضيافة، باعتبارها إيماءة مقدّسة، من بروز مجتمع جديد، وتذكّرنا في الوقت نفسه بجوهر البشر المنفوي. فالمضيف اليوم ربما يصبح ضيفاً في الغد. غير أن الشرط المنفوي للبشر غالباً ما تهبط مرتبته إلى المهاجر الموسوم بالآخر والغريب الذي نقابله بالدولة القومية واستقرار الهوية

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى