الميلاد

…وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفّت القلب
__________________________________________

اختلفت مقايس السعادة… من زمن إلى آخر. ولكنها من الأشياء التي تحتاج إلى إعادة تعريف جذري في المنطقة الوسطى بين الحرب والسلام. إن السعادة لا يمكنها العيش دون سلام. والحرب إنتاجها الوحيد وسلعتها الوحيدة هي …القبور.

تولستوي يقول: ” السعادة هي أن يكون لديك ثلاثة أشياء: شيء تعمله، وشيء تطمح إليه، وشيء تحبه.”

في سورية اليوم، المفقودات أكثر من الموجودات. خذ هذه المقولة التولستوية:

بالنسبة لـ “شيء تعمله” …لا يوجد لدى عشرة ملايين سوري شيء يعملونه سوى محاولة تخفيف البؤس الإنساني المتعلق بالجوع والعطش والأمان.

بالنسبة لـ”شيء تطمح إليه”: لا يوجد لدى الأجيال السورية الراهنة أي أفق واضح مفتوح، آمن، ذكي ، ولائق، سواء المتعلمون أو الجهلة، الخريجون أو حملة شهادة النزوح اليومي… ولا أظن أنه بقي مكان لائق لسؤال تلفزيوني ساذج: بماذا تحلم؟ ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟

أما بالنسبة لـ “شيء تحبه”: فتلك واحدة من المعجزات، لأن الكراهية والبغضاء في كل قذيفة، وكل طلقة، وكل منزل مهدم، وقرية مهجورة، وشارع ركام. ومعدة فاضية، وجسد بردان وخائف.

شيء تحبه؟

كل مفردات الحياة اليومية، من الكهرباء إلى الماء، إلى الغذاء والدواء، وحشائش الحيوان … تدعوك إلى أنماط من التذمر والاحتقان والشتيمة... والغضب والعجز. ومع مرور الوقت يصاب كائن الحياة السورية الحربية الحديثة بنوع من الكراهية المغشوشه لمصدر تعاسته ، مرموزاً إليه بشكل البني آدم… أي بزميل الحياة، وهذا فخ خطير يساق إليه الإنسان العاجز والمقهور، حيث يرى الناس بوصفهم أعداء محتملين ومسؤولين عن تعاسته.

الحب الغريزي … وحده ، يستطيع ، مثل كل نباتات العصور السحيقة ، أن يتسلل من شقوق البؤس، ومن بين الأنقاض، وعلى أسطحة الخرائب، وفي منعطفات الظل . وأظنه هو الصنف الوحيد المتوفر في الحياة السورية اليوم.

ثمة عشاق هنا وهناك، يزخرفون المشهد الرمادي لشتاء يكزّ على أسنانه وهو ذاهب إلى المتاريس. وإلى المدافىء المطفأة. وهؤلاء العشاق، وحدهم، من أحمل لهم، في مشواري اليومي، حبات شوكولا… كأنها رشوة للتمادي المطلوب. أو لتحلية المرارة في وجه إمرأة مهاجرة تشحد على رصيف. على بعد قبلتين.

أعود إلى البيت مستوفياً شرط السلامة المشبوهة، والتي لم تعد مصدراً للحفاوة، بل تشبه تعليق المعطف وراء الباب. وكان في انتظاري ما سأبحث عنه.

كان مساء الميلاد. وقد أصبحت الحياة، التي عادة تحتفل بهذه المناسبة (القصاع. باب توما)، خطوط تماس للحرب. وبدلاً من الشوارع والأضواء. هناك العتم والانكفاء إلى البيوت.

حاولت عامداً الإطلاع على بعض ما حلّ بأولاد المسيح. وأكتفي بهذه المعلومات: كان المسيحيون العرب يشكلون في العالم العربي20% من السكان. أصبحوا الآن 10% في الموصل، بقرار من داعش، بعد احتلالها المحافظة ، تم تهجير نصف مليون مسيحي . وفي العراق انخفض العدد من 250 ألف إلى 1500، وأما في سورية فهناك نصف مليون هاجروا خلال الأربع سنوات الماضية.

خصصت هذه الأرقام للمناسبة (ميلاد السيد المسيح). ومنذ قليل قرع جرس الميلاد. ونكاية بكل شيء…أرجو أن نقرع كؤوس الشاي إن لم يتوفر النبيذ.

لقد أصبح السوريون، وقد انطبق عليهم قول “توفيق الحكيم” قبل 70 عاماً:

“خلفنا ننظر إلى الماضي… بندم.
وحولنا… بخوف.
وأمامنا… بيأس.”

لكنني أنا، ولأسباب لها علاقة بالمعاندات ، غير المفهومة إلا عند الحيوانات، عندما تحرن وهي تجلد كي تجر آلة الإنسان … فأقول:

“عندما تقسو الحياة… احذر أن تحذو حذوها ، وتقسو على من حولك”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى