المُسجى في زنزانة تابوت ينشد الزوابع البعيدة

يبدو أن الشاعر الكسندر بلوك قد أخذ بمفاهيم لينين عن الأدب والفن، حيث كان لينين قد وقف ضد الفهم (النفعي) للأدب وضد المفاهيم المبسطة لماهية الجمال، ومن ضمن مفاهيمه الأخرى أن الأدبَ يوّحد عاطفة الإنسان وفكره، وأن التعبيرَ عن الواقع يشكل غاية جمالية واعية لا بد من أن يسعى الأديب لبلوغها.

ومن هذه المفاهيم أسس بلوك قاعدته الشعرية، وأضافت إليه البيئة الروسية آنذاك في الفترة التي سبقت قيام الثورة البلشفية ضد حكم القياصرة، ما كان يُعانيه من العُزلة الوجدانية والإنغماس الغيبي اللذين جعلاه فيما بعد أكثر تمسكا بالوجود الأرضي والإنتقال من رُعب العالم – كما أسماه – الى الإقتران الكلي مع إنسانيته متجاوبا بعمق مع أصداء الحرية التي كانت تلوح بالأفق، رغم إعتقاده وقتها أن بلوغها إحدى المعجزات الكونية، وقد تطلب منه هذا البلوغ أن يتعامل مع موجوداته بشكل حسي، وأعتبر طريقه هذا هو طريقُ الصواب.

شاءت الأحداث أن تَترك له على أرضه نقطة تحوله الشعري ليتوجه كليا في قصائده الى النبوءة التي يريدها أن تنطق الحقيقة بعد أن انتقد الرمزية داعيا الى مزاوجة الإتجاهين الرمزي والواقعي تحت قبة الواقعية الإشتراكية، ولعلَ مقياس عبقرية الكسندر بلوك تكمن في أن خواصه الجمالية لا تقتصر على الأشياء التي تثير الجمال أصلا، بل أن ورشته الشعرية تخلق أطرها الجمالية وصولا للحقائق الجمالية، فكل فعل شعري يستند على الأشياء التي تحيط بالإنسان يضعه الشاعر كأساسيات في منتجه كمجموعة من علاقات متداخلة ما بين الظواهر وقدراتها ففي مفتتح أشعار السيدة الجميلة يقدم نموذجه الذي دعا إليه ونعني به المزاوجة بين الإتجاهين المذكورين والذي يظهر جليا ضمن نصه هذا:

على سطح المياه اللانهائية
المخضبة بأرجوان المغيب
يستوي مغردا، متنبئاً
عاجزاً عن نشر الجناح المهيض
يتنبأ بجحافل التتار
بإعدامات دامية عديدة
بالزلازل، بالجوع، بالحرائق
بانتصار الأشرار وهلاك الأبرار

ولأجل تعزيز نهجه الواقعي وانتمائه الوطني لقضيته قدم مسرحيته “ملحمة الأثنى عشر”، وفيها أعلن تأييده للثورة الروسية وأدانة النظام القديم.

وهنا لابد من الإشارة إلى أن الشاعر لم يقف مكتوف الأيدي أمام الجماهير التي كانت تتظاهر في الشوارع والساحات فقد كان أحد الناشطين ضمن تلك الإحتجاجات وكنتيجة لما كان يدور على الأرض من تردي الأوضاع وضياع حقوق الكادحين وانعدام الحريات اتجهت كتاباته بكليتها الى طرق الأبواب التي من خلالها يساهم في تحريض المجتمع الروسي سواء بأسلوب المقاومة المباشرة أو من خلال ما كان يكتب ضمن اتجاهاته الواقعية ليغادر الأفكار الغيبية حيث ظهر ذلك في مسرحيته “الأخرق”.

ولعل ما يجب الإشارة اليه أن قصائد بلوك كانت تتسم بالتنسيق والدقة والإيقاع وهو ينقل شعرَ أفكار الملايين من طبقات العمال والفلاحين لذلك أضاءت أشعاره الوجدانية المصير الوطني للشعب الروسي مؤمنا بأن القضايا الجوهرية تجدد نفسها ولا تشيخ:

تململوا، ورسموا علامة الصليب
ومضوا بالتابوت الفضي
وعجوز خلفهم
تتعثر في كوم ثلجي.
احتشد الجيران في فضول
شقت الأقدام دروبا عديدة
مدنسة طهارة الثلج
وسمع المسجى في زنزانة التابوت
أنشودة الزوابع البعيدة
رافعة أبواقها الى السماء

إن الكسندر بلوك قد وعى صراع الإنسان لنيل حاجاته الروحية والمادية كنتيجة، وقدم في نصوصه جوهر الصراع الإنساني وإن إختلفت حجومه وأهدافه مادام وعيهِ قد تكوّن مسبقا فيما يجب على الشاعر أن يتخذه وما يجب أن يعمل من أجله وكيف يُسخر قدراته الوجدانية والفكرية للإمساك بحريته التي تعني حرية شعبه تجاه عبودية مستديمة.

ميدل ايست أونلاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى