المُولد وسينما نادي الفيديو

 

المُولد في مصر هو تقليد شعبي أصيل الهدف منه هو إحياء ذكرى أحد الأولياء الصالحين، أما في لغة السينما فهو بوابة الحضور القوي المستديم. ولما كان المعنى الدارج والشعبي الآخر لمصطلح “مولد” هو ضجيج، وهرج ومرج، نجد أيضاً أن السينما المصرية مرت بهذه المرحلة لتشهد ميلاد غير شرعي جديد لسينما نادي الفيديو.

ويذكر أنه حتى دخول الفيديو في مصر، وازدهار تأجير أشرطة الفيديو كان أيضاً ميلاداً غير شرعي. فأول من أدخل جهاز الفيديو كاسيت في مصر كان المنتج المصري الشهير جمال الليثي الذي شاهد جهاز الفيديو لأول مرة في دولة الكويت، وعلم أنه يتم شراؤه من الولايات المتحدة الأميركية، وحدث ذلك في حقبة ثمانينيات القرن الماضي. وكان سعر الجهاز حينئذٍ باهظا؛ إذ كان سعره 3000 دولار أميركي، أضف إلى ذلك، أنه لم تكن شرائط الفيديو متاحة للجميع حتى في السوق الأوروبي والأميركي.

وتمهيداً لمشروعه المستقبلي، استورد جمال الليثي عدة أجهزة فيديو كاسيت وبدأ طرحها في السوق المصري. وفي ذلك الوقت، كان جمال الليثي يذهب للمنتجين والموزعين لشراء حقوق عرض، وتوزيع الأفلام عن طريق شرائط الفيديو.

دون أدنى شك، كان المنتجون والموزعون يشفقون على جمال الليثي؛ لأن ما يتحدث عنه مشروع من الصعب تطبيقه في الشرق الأوسط بوجه عام، وفي مصر على وجه الخصوص؛ نظراً لأن الموارد المالية لعامة الشعب المصري لا تسمح بشراء جهاز ترفيهي باهظ السعر كهذا لكن الخطوة الثانية لجمال الليثي كانت سبر غور كيفية تحويل الفيلم السينمائي لشريط فيديو. ومن ثم، اشترى جمال الليثي الماكينة التي تحول الأفلام السينمائية إلى شريط فيديو، مع العلم أن هذه الخطوة استلزمت أيضاً تعديل طبع الفيلم السينمائي ليتم نقله على شريط 35 مم حتى يمكن إعادة طبعه على ماكينة التحويل لفيديو.

ولم يكتفِ جمال الليثي عند هذا الحد؛ فقد استورد جهازيين آخرين للفيديو كاسيت، وأنشأ أول مصنع لتجميع الفيديو في مصر. وفي ذاك الوقت كان يتوافر في حوزته نحو 2500 فيلم عربي وأجنبي مما اشترى حقوق عرضهم وتوزيعهم من المنتجين والموزعين، بالإضافة إلى ما كان بحوزته بالفعل من أفلام قام بإنتاجها، بالإضافة إلى الأفلام التي كانت بحوزته منذ أن كان رئيساً للشركة العربية للسينما.

ومن خلال جمال الليثي ومصنعه، انتشر الفيديو في مصر. وبالتأكيد، كانت الأفلام التي بحوزته هي المادة الرائجة للمشاهدة. وتهافت على شراء جهاز الفيديو كاسيت المقتدرين، كإمارة للترف والثراء. وتلي ذلك بوقت قليل جداً، موضة رجوع العاملين بدول الخليج وبحوذتهم جهاز الفيديو. وكانت شارة جمال الليثي على الأفلام تعتبر الشارة الوحيدة المعبرة عن امتلاكه لحقوق العرض والتوزيع لجميع شرائط الفيديو، وامتدت هذه الشارة إلى دول الخليج؛ نظراً لتزايد وجود عمالة ناطقة باللغة العربية فيها، وكذلك لتلهف الشعب الخليجي على مشاهدة الأفلام المصرية التي طالما سمع عنها ممن كانوا يرتادون دون السينما في مصر من أبناء الخليج خلال أسفارهم لجمهورية مصر.

وبسبب هذا الإقبال الشديد على أفلام الفيديو التي كانت بمثابة إحياء للأفلام بعد نهاية عرضها في دور السينما، صار الموزع الخارجي بمثابة مجس للسينما المصرية في الأسواق الخارجية، والذي من خلاله يتم تحديد الأفلام والتيمات الرائجة، وكذلك النجوم المعشوقة لدى هذا الجمهور الذي لا يذهب لدور العرض. مما جعل للموزع الخارجي سلطاناً على الأفلام، لدرجه أن وصل به الأمر أنه كان يشترط النجوم التي يجب أن تصير في الصدارة، والتي ينبغي أن تجتاح الأفلام؛ لتنعش سوق التوزيع.

أما في الداخل، فنظراً لاتساع السوق المصري، وإقباله على مشاهدة الأفلام بوجه عام، كان أيضاً للمنتج نظرة مستقبلية فيما ينتجه من أفلام؛ حيث كان راغباً عن حرمانها من العرض على شرائط الفيديو كاسيت على الأمد البعيد لجني لمزيد من الأموال حتى بعد انتهاء عرض الأفلام في نوادي الفيديو.

وطرأ على المنتجين في صناعة السينما تغيير كبير. فقد كان المنتجون بالماضي من محبي السينما والشهرة في المقام الأول، وكانوا على دراية بأن جودة الفيلم هي من تجلب الجمهور. لكن بعد انتشار عرض الأفلام على شرائط الفيديو كاسيت، كان يعلم المنتج أن الفيلم الذي لم يحقق نجاحاً وإيراداً في دور السينما، سوف يجد رواجاً على شرائط الفيديو، مهما بلغ الفيلم من رداءة وتدني في المستوى.

أضف إلى هذا، تسيَّد المنتج التاجر سوق إنتاج الأفلام، وكانت الفئة الغالبة منهم هم مجموع تجار الانفتاح الاقتصادي في مصر، أو العمال الذين رجعوا من العمل بدول الخليج، وراغبون في المكسب السريع والشهرة. مع ملاحظة أن هذه الفئات الجديدة من المنتجين كانوا من أشباه المتعلمين أو حتى الأميين. وكنتيجة طبيعية، كانوا يقبلون قبل أي شيء على صناعة أفلام تتلاءم وأذواقهم، وكذلك أذواق ذويهم.

لكن بمرور الوقت، وببلوغ صناعة السينما في مصر منحنى خطيرا بسبب تدني جودة الأفلام، الي أردفه كنتيجة طبيعية ضعف إقبال الجمهور على ارتياد دور السينما. وتراجع عدد الأفلام التي يتم إنتاجها سنوياً، وأحجم المنتجون عن الإنتاج لأن توزيع الفيديو لم يعد رائجاً كما كان بالماضي. فمن الطرائف، أن امتلاك أحدهم لكارنيه نادي لفيديو كان فخراً، ومدعاة للتباهي. لكن في منتصف تسعينيات القرن العشرين، لم يعد ذلك الكارنيه ذا قيمة، مثلما هو الحال بالنسبة لجهاز الفيديو كاسيت الذي صار يعلوه ركام التراب؛ لعدم استخدامه، إلا نادراً.

وفي ذلك الوقت، كانت الأفلام الوحيدة التي تلقى رواجاً هي أفلام عادل إمام، ونور الشريف، ومحمود عبدالعزيز، وأحمد زكي. وكانت هي أيضاً الأفلام التي يقبل عليها الموزع الخارجي الذي لا يزال يقوم بدور مجس السوق واحتياجاته، مما أثر أيضا على نوعية اختيار أفلام كبار النجوم، التي كانت جميعها يجب أن تنصب في وجود “خلطة” تجذب المشاهدين، وكان قوام هذه الخلطة السرية هي “الأكشن والإثارة”.

 لكن، لم يتنازل هؤلاء النجوم على جودة قصة وسيناريو وحوار أفلامهم. فمثلاً، هناك أفلام مثل “العار”، و”الكيف” ظهرت فيهم بذور السينما الشديدة المحلية، لكن بشكل يجعلها ترقى للتوزيع لتوافر خلطات الإثارة فيها. فلم يضعف ذلك من قصتها، على الرغم من أنه انتشر بها بضع ألفاظ كانت غريبة على أسماع المواطن المصري بشكل عام، لكن كان يتم استخدامها في إطار درامي جيد؛ لتوضيح أن هذه لغة متدنية خاصة بطبقات معينة، ولا يتم استخدامها عادة على أرض الواقع.

ومن ناحية أخرى، نجد أن النجم عادل إمام علم أن تصدر النجومية تعني حمل عبء شديد على عاتقه. فتنوعت أفلامه بين الأكشن، والرومانسية، والمحلية في إطار شديد الإثارة والطرافة، لا يخلو من رسم البسمة على شفاة المشاهدين حتى عند مشاهدة بعض اللقطات التي كانت من المفروض أن تصير مأساوية.

ومما أمعن في جودة أفلام عادل إمام أنها كانت عادة بمثابة نبض لما يحدث بالشارع المصري في إطار طريف. فظهرت أفلام مثل “المنسي”، و”الإرهابي”، و”الإرهاب والكباب” في شكل أفلام روائية عميقة المعاني، وبعيدة عن الإسفاف بكل صوره، لكنها تحمل في طياتها جميع عناصر “الخلطة السرية”. فقد كانت جودة تلك الأفلام، “الخلطة السرية” المميزة التي جذب جميع جمهور المشاهدين من كل الفئات، دون استهداف فئات محددة.

وكان أكبر طفرات السينما المصرية في هذا الوقت إنتاج أفلام للنجم أحمد زكي الهدف الرئيسي  منها الربح من خلال جذب المواطن البسيط لدور السينما التي كان غالباً يحجم عن دخولها إلا في أيام الأعياد. وكان فيلم “مستر كاراتيه” بمثابة تحول كبير في صناعة الفيلم المصري، فلقد عرض الفيلم حكاية الشاب القروي المهووس بأفلام الأكشن التي يشاهدها على شرائط الفيديو، والذي يرغب أن يصير يوماً بطلاً مشهوراً مثل نجوم هذه الأفلام. وقد استعرض الفيلم مهنة منادي السيارات، مهنة لم تكن مشهورة جداً في ذاك الوقت، واشتهر امتهانها بعد الفيلم.

وعلى الغرار نفسه، نجد أن فيلم “كابوريا” قد سار في ذاك الاتجاه نفسه، من خلال استعراض الوجه الآخر لامتهان الرياضة. وكانت تحظى أفلام كبار نجوم التسعينيات بنقد إيجابي بسبب جودتها، وبسبب أنها لا تخلو من العبرة بسبب تركيزها على القصة الروائية قبل أي شيء، على الرغم من أنه كان يتم إنتاج هذه الأفلام مع اعتبار رأي وتوجيهات الموزع الخارجي. ومن ثم، لم تخبُ هذه الأفلام الجيدة مع إنزواء جهاز الفيديو كاسيت، ونوادي الفيديو. بل استمرت ليتم عرضها على شاشات القنوات الفضائية، وعلى شبكة الإنترنت.

خلاصة القول، الفيلم الجيد القصة هو الذي يقبل مزجه بجميع العناصر المفروضة “للخلطة السرية” دون حدوث أي إسفاف، أو إنزاوء مع تقلبات الزمن؛ والسبب هو جودة النص الذي يقوم عليه الفيلم، والتي تجعل منه فيلما روائيا هادفا، تشوبه بعض الإثارة، وليس العكس.

 

 

ميدل إيست أون لاين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى