«النصرة» تبحث عن جلد جديد: ثوب «الإخوان»  في الخدمة

 

بدّلت «جبهة النصرة» جلدها مرات عديدة على امتداد السنوات السابقة، من دون أن يغيّر ذلك شيئاً في جوهرها المتطرف. و تتسارع جهود أبو محمد الجولاني لإعادة تصدير جماعته في صورة جديدة، تطمح إلى التشبّه بـ«جماعة الإخوان المسلمين». وإذا ما رأت خطط الجولاني النور، فإنها لن تعدو كونها «تكتيكات ضرورية» وفق ما يروج في الكواليس، مع التشدّد في التزام «الجهاد» استراتيجية ثابتة.

لا تجد «هيئة تحرير الشام/ النصرة» حرجاً في تغيير أزيائها. كلّما دعت الحاجة إلى ذلك، أثبت زعيم الجماعة المتطرفة، أبو محمد الجولاني، استعداده لتعديل التكتيكات و«المنهجيات»، وقدرته على ضبط التناقضات داخل جماعته. ولا يعدم الجولاني الوسائل والأدوات الناجعة، وخاصة حين تمنحه تعقيدات المشهد السوري «كتفاً إقليمياً» يتّكئ عليه، وهو أمرٌ لم تُحرم «النصرة» منه، باستثناء فترات مؤقتة، كانت أشدّها وطأة فترة الانكماش القطري في مستهلّ الأزمة الخليجية الأخيرة.

البراغماتية في نظر الجولاني حصان تمكن الاستعانة به دائماً، و«فقه الضرورة» جاهزٌ لتقديم «المسوّغات الشرعية». بالاستفادة مما تقدم، لا يزال مشروع «النصرة» مستمرّاً في تسجيل «النقاط»، والقفز درجات إلى أعلى السلم، في خضمّ المشاريع «الجهادية» التي انخرطت منذ مطلع العام الحالي في سباق جديد على رسم مشهدية إدلب وتحظى «النصرة» بمكانة «فريدة» وسط الصراع المذكور، بوصفها قاسماً مشتركاً بين مشاريع متناقضة، تتباين رؤاها في النظر إلى الدور الوظيفي الذي يمكن للجماعة لعبه، وتتوافق على أهميتها في المعادلة.

توحي المعطيات المتتالية بأن السباق راهناً قد حُسم لمصلحة المشروع القطري، الذي يلحظ أهمية دعم الجولاني ومدّ يد العون لجماعته على طريق تحقيق «التمكين». وباشرت الأدوات الإدارية للجولاني نشاطاً مكثّفاً في سباق مع الوقت، لرسم ملامح «التمكين» المنشود، في صورة تتوخّى تورية «الراية السوداء» خلف ستار «مدني»، من دون أن يعني ذلك التخلّي عن «تحكيم الشريعة» بوصفه جوهر المشروع. وسمح تعزيز القبضة العسكرية لـ«تحرير الشام» بتكريس هيمنة «إدارية» لـ«حكومة الإنقاذ» على كثير من تفاصيل الحياة اليومية في إدلب، وبشكل خاص قطاعات التعليم والاقتصاد والطاقة.

اللافت أن هيمنة «الإنقاذ» على قطاع التعليم ركّزت تحديداً على التعليم الجامعي الخاص، فيما تركت مهمة تعليم الأطفال لـ«المكاتب الدعوية» في الدرجة الأولى. وتطالب «الإنقاذ» الجامعات والمعاهد الراغبة في مواصلة عملها بتسديد مبالغ باهظة مقابل منحها «التراخيص» اللازمة. وبالتوازي، كثّفت «سلسلة المكاتب الدعوية» في الشهرين الأخيرين «نشاطاتها التعليمية»، فافتتحت عشرات المراكز والمكاتب و«حلقات العلم» الجديدة المخصّصة للأطفال واليافعين، إضافة إلى توسيع عدد «المدارس القرآنية» التابعة لـ«دار الوحي الشريف». ودشّنت «سلسلة المكاتب الدعوية في بلاد الشام» حملة توزيع مجاني لمعونات غذائية، وسلع استهلاكية، علاوة على توزيع معونات مالية في بعض القرى والبلدات.

رغم حرص «تحرير الشام» على إظهار بعض التفاصيل التي توحي باستعدادها لالتزام الاتفاقات الخاصة بإدلب («سوتشي» على وجه الخصوص)، إلا أنها تعمل على أرض الواقع بطريقة مغايرة. وراجت أخيراً صور لوحات إعلانية عملاقة في بعض الطرق والأوتوسترادات، وقد أزيلت عنها العبارات الداعية إلى «الجهاد»، وطُليت باللون الأبيض محلّ الأسود. في المقابل، وجّهت «وزارة الأوقاف» في «حكومة الإنقاذ» رسالة إلى أئمة وخطباء المساجد، تنصّ على وجوب التزام «بث روح الجهاد في الأمة، وتحريض المسلمين على البذل والعطاء في سبيل الله… والدعوة لتحكيم الشريعة والاعتصام ورصّ الصفوف».

كذلك، كثّف «المكتب الشرعي» التابع لـ«الجناح العسكري» في «تحرير الشام» أعماله «الدعوية»، وضمّ في الأسابيع الأخيرة عشرات «الدعاة» إلى كوادر «فريق العمل الدعوي/ الفاتحون»، فيما بوشرت حملة أعمال موسّعة لحفر وتجهيز سلاسل خنادق جديدة في كثير من مناطق سيطرة «تحرير الشام»، التي يُراد لها أن «تستلهم تجربة غزة»، وفقاً لما يتم تداوله في الكواليس.

تعوّل «تحرير الشام» على نجاح مشروع «القرى النموذجية»، الذي باشرت تنفيذه قبل فترة «الإدارةُ العامة للخدمات الإنسانية»، بتمويل قطري معلن. ويتوخّى المشروع كسب «الحواضن الشعبية»، وجمع مئات العائلات في تجمعات سكنية تُدار بـ«أحكام الشريعة»، من دون الحاجة إلى «تحكيم السيف». وأُنجز بناء أولى القرى في منطقة سرجيلّا في جبل الزاوية، وتضمّ 500 شقة سكنية، فيما يستمر العمل على تشييد تجمعات مماثلة، وعلى تحسين ظروف تجمعات أخرى (موجودة سابقة) وإعادة تأهيل بناها التحتية.

واعتُمدت «منهجية» أولية لإدارة «القرى النموذجية» وفق «الشريعة الإسلامية»، وقد بوشر تنفيذها أخيراً على سبيل التجربة، استعداداً لتحويلها إلى آلية شاملة تُطبّق في كل التجمعات المماثلة. وعمّمت «إدارة القرية» التعليمات على السكان وأصحاب المحال، وعلى رأسها «إلزامية التعليم الشرعي» وإلحاق الأطفال ببرنامج «صلاتي حياتي»، والتزام أصحاب المحال بعدم بيع التبغ، وبإغلاق محالّهم في مواقيت الصلوات الخمس. ويتوخّى «المشروع» التحول إلى «نموذج ناجح للتنمية الجهادية، وتكريس العمل على أساس خدمي دعوي». ويضع على رأس أهدافه «تعزيز البيئة الحاضنة للجهاد، وامتلاك قلوب الناس، وإشراك الأهالي في تبني المشروع، والقضاء على المعاصي، وإنشاء جيل مسلم يحارب الروس والمجوس ومرتزقة النظام من خلال الدعاة العاملين في المشروع».

لم يأتِ صبّ الاهتمام على «التمكين» من فراغ؛ إذ تعدّه بعض «الاجتهادات الشرعية» شرطاً أساسياً من شروط «حكم الشريعة» و«إقامة الحدود». وترى تلك «الاجتهادات» أنه إذا «كان في إقامة الحدود فساد يربو على مصلحة إقامتها لم تُقم»، وأن «تطبيق الحدود في حال انعدام السلطان أو ضعفه هو فرض كفاية». ويبدو أن «تحرير الشام» في مرحلتها الراهنة باتت تسعى إلى «بلوغ التمكين بالموعظة الحسنة»، على ما تلاحظه مصادر «جهادية» مواكبة للمشهد في إدلب. وتشير معلومات «الأخبار» إلى أن كواليس إدلب تشهد في الفترة الراهنة جهوداً حثيثة لتطعيم «منهجية النصرة» بسلوكيات «سياسية» تستلهم تجارب «جماعة الإخوان».

وربّما تقدم هذه التفاصيل تبريراً مفهوماً لإبعاد أبو اليقظان المصري عن الواجهة «الشرعية». وكان المصري «شرعياً في الجناح العسكري لهيئة تحرير الشام»، قبل أن يستقيل في مطلع الشهر الحالي، عقب خلاف بينه وبين «قيادة الهيئة»، التي وجّهت له إنذاراً لأنه «يخالف أوامر الجماعة ولا يلتزم بالضوابط الإعلامية التي تقدّرها». وعُرف المصري بوضوحه في التعبير عن روح «المشروع الجهادي» المتطرف، خلافاً لتيارات أخرى داخل «الهيئة» لا تجد مانعاً في المواربة إذا ما «دعت الضرورة».

ولا تمثّل هذه التغييرات سابقة في سجل «جبهة النصرة»، بل هي في الواقع تأتي إحياءً لمرحلة مماثلة عرفتها «النصرة» عقب سيطرتها مع «جيش الفتح» على كامل محافظة إدلب، وفي خضم النقاشات التي كانت مستعرة وقتذاك حول «فك الارتباط» بتنظيم «القاعدة». وراجت في تلك الفترة أحاديث عن ضرورة «تشكيل جسم سياسي لجيش الفتح» يستلهم تجربة «حركة طالبان»، الأمر الذي أعيد إلى التداول أخيراً مع تغيير المسميات (إذ لم يعد لتحالف «جيش الفتح» وجود). وكانت «الأخبار» قد تناولت المشروع الجاري إحياؤه إبّان طرحه أول مرة قبل أربعة أعوام.

رغم الاستنفار الذي أحدثته «هبّة» تنظيم «حراس الدين» قبل أسبوعين، بطريقة توحي بأن ساعة الانفجار بينه وبين «تحرير الشام» قد دنت، إلا أن المعطيات اليوم تعكس التزام الطرفين تهدئة إعلامية لافتة. وكما كان «حراس الدين» صاحب المبادرة في التصعيد، عاد ليصبح سبّاقاً إلى إرسال إشارات التهدئة و«حسن النوايا». واعتذر التنظيم المتطرف، في بيان، عن قتل مجموعة تابعة له قائداً تابعاً لـ«الهيئة»، هو عادل حوير (أبو إبراهيم)، قبل أن يعلن الطرفان توقيع اتفاق تهدئة في العاشر من الشهر الجاري.

 وتؤكد مصادر «جهادية» لـ«الأخبار» أن «الهيئة كانت حريصة على التهدئة» هذه المرة، ويُرجّح أن السبب في ذلك رغبتها في عدم التشويش على مشروعها «السياسي» في المرحلة الراهنة. وعُرف عن «النصرة» حرصها على خوض معاركها الكبرى ضد المجموعات الأخرى في مواقيت تختارها بما يتناسب مع أولوياتها، وعدم الانجرار إليها إذا لم تكن مستعدة على مختلف الصعد.

 

 

صحيفة الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى