النموذج التركي للديمقراطية في ميزان صراعات حلفاء الأمس والفساد (عامر راشد)

 

عامر راشد

فرضت تجربة "الإسلام السياسي" التركي نفسها بقوة في السجال النظري المتشعب الذي أطلقته ثورات "الربيع العربي"، في استقراء الميول والاتجاهات لتطور فكر وأيدلوجيات قوى "الإسلام السياسي" العربي، على ضوء التغييرات التي جاءت بها الثورات، ورأى كثير من المفكرين، إسلاميين وعلمانيين، أن تلك القوى مرشحة لتطوير فكرها ونسقها الأيدلوجي- السياسي اقتداء بالنموذج التركي الذي يمثله "حزب العدالة والتنمية"بزعامة رجب طيب أردوغان.
وكانت تحضر إلى جانبها في ميدان النقاش والبحث التجربة الماليزية، التي قادها رئيس الوزراء الماليزي الأسبق مهاتير محمد، غير أن التجربة الثانية كانت احتمالاً مستبعداً من حيث أن تكون مرشداً لحركات "الإسلام السياسي" العربية، لأن التجربة الماليزية لا تعد تجربة إسلامية خالصة بنظر غالبية المفكرين الإسلاميين، رغم الخلفية الإسلامية لعملية النهضة الحضارية التي نجح في تحقيقها مهاتير محمد، وأحد أوجه النقد الرئيسية التي توجه للتجربة الماليزية تتمثل في العلاقة مع الغرب، وعبّر مهاتير محمد عنها في تصريح شهير له قال فيه: "لابد من علاقة جيدة مع الغرب لقيام مشروع التنمية، وأنا أتوجه للقبلة أثناء الصلاة والبورصة الغربية أثناء التنمية".
بخلاصة الآراء رجحت كفة التجربة التركية، بحجة أن النموذج التركي أقرب إلى ما يمكن أن تصل له حركات "الإسلام السياسي" العربية من تطور فكري وأيدلوجي- سياسي، إذ تستطيع الأخيرة، كما وقع في تركيا، أن تتطور في إطار "ديمقراطية إسلامية"، أو كما يفضل البعض التعبير عنه بـ"دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية"، باستطاعتها -حسب هؤلاء- أن تقدم نماذجا ناجحا في حل التناقضات داخل المجتمع، جنباً إلى جنب مع تحقيق نهضة اقتصادية، مثالها الناجح ما أنجزه حزب "العدالة والتنمية" خلال سنوات حكمه بزعامة أردوغان، الذي جاء عبر انتخابات ديمقراطية شفافة.
لكن تلك التنظيرات قابلها تشكيك من قبل مفكرين وباحثين علمانيين، مبعثه أن قراءة برامج قوى "الإسلام السياسية"، والطريقة التي تعاطت فيها مع استحقاقات مع بعد الثورات، يجعل من الصعب الاعتقاد بأن باستطاعتها تقديم حلول للمعضلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التنموية، التي قامت من أجلها الثورات ورفعها الشارع في حراكه المعارض لأنظمة الحكم القمعية والفاسدة. بل أكثر من ذلك اعتبر كثيرون أن تجربة "الإسلام السياسي" في بلدان"الربيع العربي" ستشكل امتحاناً أقرب إلى الفشل منه إلى النجاح، لطبيعة المشكلات التي تراكمت على مدار عقود، وعدم امتلاك حركات "الإسلام السياسي" العربية ما يكفي من خبرة ومرونة لمواجهتها.
وخلال السنوات الثلاث الماضية عملت تركيا بقيادة حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي على تعزيز ثقل تأثيرها في البلدان العربية، للاستفادة من التحولات الجارية في نظمها السياسية، بهدف خلق معادلات إقليمية جديدة تجني من خلالها مكاسب تدعم ثقلها كقوة إقليمية كبرى، واعتمدت في ذلك على تقدير بأن نظام حكم أردوغان مستقر بما فيه الكفاية، ولا يُشك في أنه سيحقق فوزاً مؤزراً في الانتخابات القادمة، غير أن الدور الجديد الذي قررت تركيا أن تلعبه كان ثمنه المنظور التخلي عن نظرية "صفر مع الجيران"، التي وضعت في بداية حكم "العدالة والتنمية" كأساس لتحسين المناخ السياسي والاقتصادي المحيط بتركيا.
كان الظاهر أن تركيا لم تلحق بها خسائر مباشرة وكبيرة جراء دورها الجديد، قبل أن يتكشف في الشهور الأخيرة حجم التعقيدات في علاقاتها مع إيران بسبب الموقف من الأزمة السورية، ومن ثم في علاقاتها مع دول الخليج العربي، باستثناء دولة قطر، على خلفية الموقف من الأحداث في مصر بعد الثلاثين من حزيران/يونيو 2013 وعزل الرئيس محمد مرسي. لكن الشيء الأهم يظل وقع الأحداث الداخلية التركية منذ 17 كانون الأول/ديسمبر 2013، حين فجَّر القضاء التركي فضيحة فساد كبرى، اتهم فيها عشرات من رجال الأعمال والسياسيين المقربين من حزب "العدالة والتنمية"ورئيس الوزراء، وكذلك عدد من الوزراء والمسؤولين الحكوميين وأشخاص من عائلة أردوغان، اتهموا بالفساد وتبييض الأموال والاحتيال.
اللافت أن الفضيحة كشفت بدورها عن صراع خفي كان يدور بين أنصار رجب طيب أردوغان ورجل الأعمال المعروف فتح الله غولن، الحليف السابق لأردوغان، وسرعان ما تحول الصراع إلى حرب ضروس، قام من خلالها أردوغان بحملات تطهير واسعة ومتتالية في صفوف الشرطة والقضاء طالت مستويات رفيعة، اتهمتها الحكومة بأنها تحالفت مع غولن، لتشويه سمعة أردوغان وحزبه على أبواب الانتخابات البلدية والرئاسية.
وفي هذا السياق، طرح أردوغان مسودة قانون جديد لتغيير تركيبة الهيئة العليا للقضاء، في شكل يضعها تحت أمر الحكومة مباشرة، الأمر الذي أثار حفيظة أحزاب المعارضة، وأيضاً أبدى الرئيس عبد الله غل اعتراضه على المسودة، التي راح يستخدمها حزب "العدالة والتنمية"لانتزاع تنازلات من المعارضة تخفف من آثار فضيحة الفساد، وتمرر جزءاً كبيراً من قرارات حملة التطهير التي أقدم عليها أردوغان.

الواضح أن المعركة مازالت في بدايتها، وستستمد شراسة أكبر كونها على أبواب الانتخابات البلدية والرئاسية، التي ستقرر مستقبل حكم حزب "العدالة والتنمية" وأردوغان شخصياً، الذي استخدم عصا غليظة ضد الشرطة والقضاء، دون أن يرفق هذا بآليات شفافة تسمح بجلاء حقيقة التهم بالفساد، مما سيسلح معارضيه بحجج قوية في برامجهم ودعايتهم الانتخابية للضغط على خاصرة كان يظن حتى وقت قريب أنها صلبة جداً، بحكم ما أنجزه أردوغان على الصعيد الاقتصادي، وكانت بمثابة كرت رابح في سنوات توليه منصب رئاسة الوزراء، وأصبح عنواناً لنموذج يعتد به قبل الكثيرين، لكنه صار اليوم موضع تساؤلات ستجيب عنها الشهور القليلة، وربما الأسابيع، القادمة. وفي كل الأحوال بعد ما جرى في بلدان "الربيع العربي" ضاعت في زحمة الأحداث التنظيرات حول الاسترشاد بالنموذج التركي.


وكالة أنباء موسكو

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى