النيران الباردة !
النيران الباردة !.. إنها الحرب الباردة، مرة أخرى، ولكن هذه المرة بالنار والحديد. كلنا يتذكر الحرب الباردة، وينسـاها، في الوقت نفـسه. فهي التي بدأت بعد الحرب العالمية الثانية ، وهي التي أفسحت لكل الصراعات، مجالاً يشمل العالم بأسره، مع أنها كانت بين دولتين .
هكذا نتذكر الحروب الصغيرة بالنيابة عـن المحاربين الكبار. وفي لحظـة مـن لحظات ” مكر التاريخ” كما يسميها كارل ماركس… حدث ما لم يكن في الحسبان: انهار أحـد المحاربين ( الباردين) دفعة واحدة . انتصرت الولايات المتحدة، في تلك اللحظة التـي انهار فيها الاتحاد السوفييتي.
لقد انهارت العقائد، والأفكار، والنظريات، والأخلاق… وبقيت القوة العسكرية، لكنها القوة التي تستطيع تدمير الكرة الأرضية سبع مرات، دون أن يكون لديها القدرة على انتاج الزبدة والخبز لسبع سنوات قادمة…لقد حصلنا،بدلاً من الاتحاد السوفييتي العظيم، على روسيا خافضة الرأس والجناح… روسيا الصغيرة!
في نقاش الأزمة السورية، ساد فقرٌ شديد في تحليل ما يحدث. وهو فقر منشؤه إهمال العناصر الجديدة في المشهد المحيط بالبحر الأبيض المتوسط ، بالارتباط مع…” أعالي” البحار! أي إهمال العنصر الدولي في هذا الصراع بين روسـيا التي لم تعد خافضة الرأس و…صغيرة، وبين أمريكا التي لم تنسَ للحظة واحدة أن البحر الأبيض المتوسط هو السـوارالمؤلف من ماء استراتيجي يحيط بصحراء مؤلفة من النفط والغاز و… سموم أخرى!
لهذا السبب ـ ربما ـ كان قد أخطأ الكثيرون في تقرير وتقدير عمر الأزمة السورية . مراهنين على ثلاثة أنواع من النجاح الافتراضي، وحاصدين لثلاثة أنواع من الفشـل الواقعي، حتى الآن، على الأقل.
النوع الأول: التدخل العسكري. وليس ضرورياً شرح موقف أصحاب الأساطيل في الغرب من هذه المسألة… فقد شرحوه بأنفسهم. ولكن الغريب أن أطرافاً في الصراع لا يصدقون!
النوع الثاني: الانهيار السوري الوشيك . وقد أصيب الكثيرون بالدهشة من قدرة النظام على البقاء في هذا الأتون الواسع الملتهب من النار الداخلية!
النوع الثالث : ( وهنا موضوعنا) … المراهنـة على تغيير وتغيّر الموقف الروسـي، والصيني ( بل وشراؤه) فتعب المراهنون من استيعاب هذا الإصرار الروسي على أن يكون “لافروف” هو الوزير السوري المكلف بالدفاع الخارجي ديبلوماسياً عن الأزمة السورية.
روسـيا لم تعد كما كانت، وموطئ القدم الذي تحصل عليه هنا، في الشـرق الأوسـط ، هو قضية ” موت أو حياة” الوجود الروسـي لـيس بمعنى السـفن والســلاح والشـحن والتجارة …و… إنما بمعنى الحضور الاستراتيجي القابل للدوام والديمومة الفاعلة!
ولفهم ذلك… لنتخيل هزيمة نكراء لروسيا في نهاية هذا الصراع! ليس هناك أقـل من كلمة هزيمة و… نكراء، معاً!
هذه هي الحرب الباردة مرة أخرى. وهي بالحديد والنار، مرة أخرى. وبالنيابـة عن المتصارعين الكبار… مرة أخرى. وهذا هو “مكر التاريخ” الذي وصفه كارل ماركـس . المكر الذي يعيد التجربة ، من أولها … ولكن بأدوات ووســائل وعصر مختلف .
حروب النيابة، كما نعلم، وقودها البشر والحجر. ولا أظن أن سورية يمكن أن تنجو من صناعة المصير خارجها، وبدمغة الحرب الباردة… وبتوقيع اللاعبين الكبـار .
وليـس هناك دليل على اقتراب نهاية ما لهذه الأزمة ، إلا هذا الإكثار مـن التدميـر والقتل والخراب. فكما يقولون: ” كلما كثرت الأنقاض اقترب الانقضاض”. وعندما يتلف صبر الطرفين وأدواتهما ، ويشـبه مشـروعهما “العبث والعدم” يجلـس الكبار ويدخنون غلايينهم على…خريطة!
هذا، بعد أن يحدث، قد يكون لدينا تسمية أخرى لشرق أوسط جديد ، وقد تكون ” البوابة”عريضة يدخل منها كل الجمال وكل السفن، وقد تكون ضيّقة… لا يدخلها إلا من آمن بأن النفط مادة مقدسة. وكل العقائد أوراق مدنسة!