الهجرة كانت ولا تزال حلا ومشكلا

تغليب المعطى السياسي في التعامل مع معضلة الهجرة السرية نحو أوروبا، فيه ضرب من الاستسهال والركون إلى نوع من الكسل التحليلي في قراءة ظاهرة وجدت مع وجود الإنسان وتوقه نحو الآخر والمختلف، أملا في الأفضل على جميع المستويات.

التونسيون مثلا، وقبل أواخر ثمانينات وبداية تسعينات القرن الماضي، كانوا يسافرون ويتنقلون بين بلدان أوروبا دون فيزا بل وأسهل بكثير من تنقلهم في البلاد العربية. ولم يكن التونسيون وقتها في بحبوحة من العيش، ولا ينعمون بمناخ سياسي يتميز بالحرية والاستقرار لكنّ الإحساس بالأمان والتفاؤل بالحياة كان موجودا في تلك المرحلة، ويجعل الشاب يقصد أوروبا لأجل الدراسة أو البحث عن فرصة للعمل ثم يعود دون أن يحرق ” مراكب طارق بن زياد” ويختار أوروبا وجهة أبدية.

غياب هذا الاندفاع والتفاؤل بالحياة لم تتسبب فيه السياسة وحدها ولم يخلقه الفقر وحده بل شيء آخر يتحمل فيه الغرب الأوروبي القسط الأكبر من المسؤولية، ذلك أن تفشي نزعات الكراهية التي طالت حكومات ونخب سياسية وجعلتها تفرض قيودا في السفر والإقامة مبررة أن أزماتها تأتي من الضفة الأخرى، قد خلقت ردات فعل من شبابنا الذي أصبح يعتقد أن الإقامة في أوروبا هو تحد لأوروبا نفسها، هي وقراراتها وسياساتها.

ركوب المغامرة وسط هذه الرحلات الجهنمية المحفوفة بالمخاطر ليس بالضرورة مؤشرا على قتامة المشهد في بلد المنشأ، لكنّ لهذا الفعل المتسم بالجنون تفسيرات أخرى ما زالت مجهولة في عيادات الأطباء النفسيين وأبحاث المتخصصين في سوسيولوجيا شعوب المنطقة التي عرفت في تاريخها عتاة المغامرين والمكتشفين من فينيقيين وقرطاجيين ويونانيين وإسبان.

كيف يفسر المرء مغامرة شاب بحياته في سبيل الوصول إلى إيطاليا ومن ثم البقاء فيها بطالا أو مكتفيا بالعمل في مهن وضيعة لا يرضى بها في بلده أو عاملا يوميا في مزارع ترك مثلها خلف ظهره وفي ظروف أفضل؟

من يعرف ظروف الشبان المغاربيين من الذين نجحوا في الوصول إلى إيطاليا أو غيرها من البلدان الأوروبية، سيدرك حتما أن شيئا ما يقف وراء هذه المغامرة التي تبدو عبثية.

ظاهرة أحرى تبدو مثيرة للغرابة وهو أن أخيرا قد ظهرت نتائج دراسة ميدانية أجراها المرصد التونسي للشباب هي أن الآلاف من الأسر التونسية، هي التي تشجّع أبناءها على الهجرة، رغم حجم المخاطر والنتائج الكارثية التي خلفتها هذه الظاهرة بعد موت المئات من الشبان. فهل يمكن لأب أو أم أن تشجع فلذة كبدها على المغامرة بحياته؟

أما عن مغامرات الهجرة السرية التي خاضها السوريون في مأساتهم الراهنة، فتختلف تماما عن مثيلاتها لدى الشبان المغاربيين والأفارقة، ذلك أن السوريين مهجّرون قبل أن يكونوا مهاجرين، ويتميزون بقدرتهم ومهارتهم الفطرية في تحسين أوضاعهم والارتقاء بظروفهم.. على عكس التونسيين الذين لم يعيشوا في تاريخهم الحديث قسوة ما عاناه السوريون.

الأمر إذن يتعلق بجوانب واستعدادات وطبائع مختلفة، تقف خلف مغامرة الهجرة السرية وليس مجرد أسباب اقتصادية أو سياسات تعسفية ظالمة ثم أن هناك ظروفا موضوعية وطبيعية تقف خلف الهجرة التي لا بد لها أن تحصل سواء في السر أو العلن، وبصرف النظر عن المشهد المأساوي الذي نحاول دائما الزج به في هذه المسألة.

من هذه الأسباب ـ وبمنتهى البساطة ـ أن قرب تونس من السواحل الأوروبية جعلها منطقة جذب لعبور المهاجرين السريين، إذ يمكن على سبيل المثال لمركب صغير تابع لإحدى عصابات تهريب المهاجرين أن يقطع المسافة بين ميناء المهدية التونسي وجزيرة لالمبادوزا الإيطالية (أقرب نقطة ساحلية أوروبية لتونس) والبالغة 60 ميلا بحريا في يوم أو بعض يوم.. ألا يذكرنا هذا بالحدود بين المغرب وإسبانيا أو حتى الحدود البرية بين المكسيك والولايات المتحدة الأميركية.. أليس من الطبيعي أن يهاجر مكسيكي إلى الجارة الشمالية ويقيم فيها من أجل تحسين عيشه؟ أين المشكلة؟

المهاجرون عبر الزمان والمكان، وبغض النظر عن التبعات والحوادث السلبية، لعبوا ويلعبون دائما دورا ايجابيا بالضرورة، فهم يساهمون في النمو الاقتصادي والتنمية البشرية في البلدان الأصلية والبلدان المضيفة على السواء ويثرون المجتمعات من خلال التنوع الثقافي وتعزيز التفاهم والاحترام فيما بين الشعوب والثقافات والمجتمعات. ويبقى منطلق النقاشات حول موضوع الهجرة ومصبها دائما هو أنها دائما وسيلة مهمة تتيح للمهاجرين وأسرهم تحسين أحوالهم المعيشية.

بوكس:

الأمر يتعلق بجوانب واستعدادات وطبائع مختلفة، تقف خلف مغامرة الهجرة السرية وليس مجرد أسباب اقتصادية أو سياسات تعسفية ظالمة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى