الى من يرون في تقسيم العراق حل (د. عبدالحميد العباسي)

 

د. عبدالحميد العباسي

تتعالى بين الفينة والاخري اصواتٌ ترى في تقسيم العراق حلا لمشاكله المتصاعدة والمتعددة ويُفهم, ضمن هذا الطرح، قيام دولة للسنة الاكراد ودولة للسنة "العرب" ودولة للشيعة، على انقاض ما يعرف الآن بالعراق. إن مَسْحاً دقيقا لتطلعات "قادة" هذه الدول الموعودة وللجغرافية السكانية لهذه الدول ولحركة التاريخ وشخوصه وللاحداث المقاربة في العالم, يشير الى ان ما سيُراق من دماء حال قيام هذه الدول, سيفوق كلَ تصور، بسبب الاجواء المتوقع ان تسود عملية التقسيم, بما في ذلك الشحن العاطفي والانفلات الامني المرافق لحركة التجمعات الاثنية كلٍ الى جيث دولته الجديدة. ففي ليلة قيام دولة الهند ودولة باكستان, مثلا, ُقتل مئات الالوف من الابرياء وكذا كان الحال في يوغسلافيا السابقة وقبرص وفلسطين وما بقع الان في سوريا (مشروع تقسيم في الانتظار) كما لم يتوقف العنف بين الهند وباكستان لحد الان. وقد ينفجر العنفُ في اي بلد ُقسم او مُرشح للتقسيم. فالتطلعات اللامتناهية لساسة الدول الموعودة, تومىء الى صراعات اشد عنفا مما رأينا في بقاع العالم التي اسلفنا ذكرها وفي ادناه فكرة عما قد يكون مبيتا.
 
الدولة الكردية السنية الموعودة…
حدودها لم ترَّسَمَ بعدُ وعدم ترسيم الحدود دليل النية في التوسع. هكذا كان الحال وما زال, مع اسرائيل, قضْم مستمر لما جاورها مِنْ أراضٍ. تصريحات الساسة الاكراد، كلها, تومىء صوب هذا. فمن ربط الوجود العربي في العراق، بالفتح الاسلامي (اي وجود حديث لا أصيل), الى وصْف اقسام من العراق, بالمتنازع عليها، ثم المستقطعة من الاقليم, الى خرائط لدولة كردية موعودة في العراق, نشرت تباعا. على مَرّ السنين. كان اول عِلمي بمثلها هو في عام 1957 وقد ظننا آنذاك انها الاعيب دوائر الأمن العراقي لاثارة الفتن, إعتقادا منا أن العراق غيرُ قابلٍ للتقسيم. كان خط التقسيم، في تلك الخارطة يَمُرُ في بغداد مقتضما *باب الشيخ* ومناطق من الكوت والعمارة حتى علي الشرقي او القرنة, ثم سمعنا عام 1959 عن َنسْف قبر شاعر تركماني في تلال حمرين، قيل, لوقوعه على خط حدود الدولة الكردية الموعودة. وفي عام 2004 ذكر في ندوة من على فضائية أربيل (واُشيرَ في حينهَ الى تلك الندوة في صحيفة القدس العربي على ما اذكر) ذكر, في الندوة, ان "الشروك والمعدان" هم اكراد. كل ذلك يوحي بان حدود الدولة الكردية المأمولة تمتد في الاقل, الى حدود الكويت. ولا اعتقد ان الكويت او السعودية تمانع في ذلك لان الجار العربي كان, دائما, هاجس الحاكم العربي, أما الجار الاجنبي فتكفيه *شرّه* المعادلاتُ الدولية. الدولة الكردية القادمة ستحصل على سند سياسي عالمي ملحوظ, عكس الدولتين الأخريتين. وكما نرى من سياق انتشار السلاح النووي، فليس من المستبعد ان تحصل, بُعيد قيامها على سلاح نووي "ذكي" لا تُراق به قطرةُ دم. هكذا حصلت الصين على سلاح نووي لتواجه سلاح روسيا وحصلت عليه الهند لتواجه سلاح الصين، وحصلت عليه باكستان لتواجه سلاح الهند، والامر ليس صعبا, إذ. يكفي ان يُيسّر لك "رأس الشليلة" معلومة أو آلة فريدة, لتكمل أنت الباقي او قد تحصل على السلاح جاهزا, ففد جاء في الاعلام القريب قول مسؤول سعودي أنه "لو صَنّعت ايرانُ سلاحًا نوويا, فان السعودية ستحصل على مِثله خلال أيام". والاسلحة النووية, قد تكون اداة ردع إن كان لضديدك مثلها, أو أداة إبتزاز إن لم يكن له ذلك.
 
الدولة السنية الموعودة…
من المأمول ان تضم هذه الدولة كلا من الموصل (هذا اذا لم تقرر تركيا ضم الموصل, استنادا الى اتفاقيات عُقدت بعد الحرب العالمية الاولى تنازلت فيها تركيا عن الموصل شرط ان يبقى العراق موحداً)، ومن كركوك (اذا لم تقِمْ تركيا فيها دولة مستقلة كما فعلت في قبرص)، ومن
صلاح الدين والانبار وقسم من ديالى وبغداد وستكون هناك مناطق متنازع عليها مع محافظة كربلاء أو غيرها.. وقد تتحد او تنضم هذه الدولة، الى الاردن او إلى دولة مجاورة اخرى وستكون علاقتها مع الدولة الكردية وثيقة بسبب وحدة المذهب. وقد تكون العروبة شعار هذه الدولة السنية, خاصة وإن بين قادتها مستعربون اعتادوا, عملا بنصيحة اتاتورك، اختطاف العروبة وإدعائها لانفسهم دون الايمان بها. وفي كتابات العلوي تنويه عام صوب هذا. وفي هذه الدولة عشائر عربية الاصل والإيمان.
 
الدولة الشيعية…
يفترض ان تضم هذه الدولة محافظات البصرة والمثنى وميسان وذي قار وواسط وبابل وكربلاء والنجف وأجزاءَ من ديالى ومن بغداد وعلى فرض انها ستكون دولة لشيعة العراق فان عدد سكانها سيكون ما يقرب من 65% من سكان العراق قبل التقسيم ويشكل العرب ما يقرب من 95:% من سكانها. هولاء العرب لم يأتوا العراق مع الفتح الاسلامي كما يروج البعض من الساسة السُذج, فلا توجد بحار ولا جبال ولا معاهدة سايكس بيكو تمنع العرب من دحول العراق قبل الاسلام كما ان وصفهم بالصفويين (وهم الايرانيون التركمان) غير صحيح لان
هولاء الإيرانيين اعتنقوا مذهب شيعة العراق وليس العكس. والاشد خطورة هو الإدعاء بأن هولاء (حوالي 65% من سكان العراق) هم ايرانيون فهذا، الى ما فيه من خدمة مجانية لإيران, فهو ايضا دعوة سافرة لها للتدخل في شؤون العراق، ناهيك عن المطالبة في موطىء لها فيه. إنه الحقد يعمي البصائر.
متى جاء العرب العراق؟: لم يأتوا، بل وُجدِوا منذ ان وُجِد العراق وما زالوا فيه مرابطين وحماته الأمناء. في لغة عرب العراق الدارجة، اليوم, كلماتٌ سومرية عديدة, منها امثلة قليلة اذكرها ولدي الكثير وهناك اكثر: كلمة جرخ ( دولاب او عجلة), ماشة (كماشة), مشط (مشط), كِش ( اطرد، كش الدجاجة اوكش الذباب مثلا), سنسول ( العظم الفقري, سنسول الظهر), سُكان (مقود), كنه( جنة,زوجة الابن), إش ماغ (غطاء الراس, يشماغ), ركة (سلحفاة), كفة (قفة), يفوخ ( يَخف) , سرسري (سيء الصيت) وغيرها الكثير. فمن هم الاصلاء ياترى؟ رحم الله الجواهري عندما قال: أأنت العراقي ام أنا؟.
الأرجح ان هذه الدولة لن ترى النور، أو لا تعيش طويلا, فهي قبلة ُ كيانات الجوار الطامعة في التمدد على حسابها بيد أن سكانها المتمثلون بالقبائل العربية الضاربة أصولهُا في التاريخ ظلّت عصية على الطامعين. ففي ذي قار (قبل الاسلام) هَزموا جيش كسرى وفي قرون من الزمن لم يكن للمحتل التركي غير نفوذ رمزي في بعض المدن. وفي ثورة العشرين أنجزوا استقلال العراق وقد آزرتهم قبائل عربية من أخوتهم في الانبار وقد تفعل هذه, هذا أنّى لزم. وفي العهد الملكي كان للعشائر قانونها. ما يهم الجميع من هذه الدولة هو نفطها وما يُثير هواجسهم وتوجساتهم, هو اهلها والتصاقهم بالارض، فكان لا بد من تطهير عرقي، مَهّدوا له بسرقة الآثار وتدمير المواقع الأثرية لقطع صلة العراقي بماضيه, ثم كانت عناصر التطهير العرقي المعروفة من: "تجهيل وتجويع وتقتيل وتحقير وتلويث البيئة ونشر المرض. وإذ لم تف تلك بالغرض، عمدوا الى التصحير", حتى تُدفع التجمعات السكانية الى النزوح وتصير دولة عراق الشيعة قفرا, إلا من ابار نفط تستورد لتشغيلها, أيادٍ آسيوية غير مُكلفة. ويُسدل الستار على أم الحضارات ومَنبع الأفكار.

مؤامرة التصحير:
قديمة, جديدها بدأ بإقامة السدود على منابع نهر الفرات في تركيا، اعقبها تجفيف الاهوار ونقل ثرواتها الطبيعية من القصب والاسماك الى المناطق الغربية، ثم كان حفر الآبار الإرتوازية بشكل مسعور واقامة البحيرات الاصطناعية (لاغراض السياحة) في شمال العراق; كل ذلك باشراف وزارة الموارد المائية في حكومة الاتحاد، مما استنزف المياه الجوفية لحوض دجلة ثم جاء رفض الاقليم إقامة سد بخمة في شمال العراق، واخيرا وليس آخرا تهديد
احدهم (د. طه حامد الدليمي) بقطع مجرى الفرات عن الدولة الشيعية وتصحير أراضيها.

أما لمَن يرى في تحلية مياه البحر بديلا، أنقلُ رأي الدكتور البزاز، استاذ الموارد المائية في جامعة هارفرد ومستشار الحكومة الامريكية في امور الموارد المائية، ردا على سؤالي له اثناء محاضرته في منتدى الكوفة في لندن قبيل غزو التحالف، قال:"إياكم والتفكير بغير النهرين مورد مائكم" ودول الخليج تستورد ماء الشرب كله وأكثر، من الخارج.

الحل:
هو في وحدة العراق المطلقة غير المقنعة بفدراليات والجيش الوطني غير المُسيَّس حاميها: قد لا يعلم البعض ان جيش العراق قد تأسس قبل ميلاد العراق الدولة، فقد جاء في وثيقة تشكيله: "ليحفظ وحدة البلاد ويكون قادرا على القتال في جبهتين في أن واحد"، وقد أوفي الجيش بذلك وعلى الجيش الجديد ان يحفظ الامانة التي انيطت بسلفه.

لماذا وحدة العراق مقدسة:
ان العراق إرثٌ روحيٌ جاء ذكرُه في كتب السماء، ذُكرت (بابلُ) في القرآن الكريم وذكرت (نينوى) في الانجيل. والعراق موطن الرسل والأولياء, تكاد تجمع البحوث ان الانسان المُدرك والمُبدع، قد خُلق في العراق. والعراق مهد الحضارة الانسانية وبداية التاريخ, فيه اُسُتنبط الحرفُ وُشرّعَتْ القوانين ورُسّمت المدن. العراق تراث انساني ليس لأحد ان يقرر مصيرَه، وقد خُلق وحدة كاملة، وشعبه الوحيد الذي تتجلى في تاريخه الاستمراية والانسيابية. هذا عن جلود وأصالة وحدة العراق وقد عرّجْتُ في اعلاه على تداعيات تفتيته.

موقع البوابة العراقية الإلكتروني

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى