
بالنسبة لشخص يقدّس التوقيت ويحترف إيقاظ المعاني في كلّ شيء حوله؛ قد لا يبدو غريباً أن يكون عندي للصُّدَف التي ألاقيها في حياتي مكانة باسقة أقف عندها لبعض الوقت وأتّأمّلها بهدوء كمَن يتأمّلُ لوحةً فنيّة بديعة الصّنع.
لا أستطيع أن أقتنع بأنّ صدفة ما على قدر كبير من الإتقان والروعة هي مجرّد حجر صغير قرّر في لحظة ما أن يندفع ويسقط من أعلى المنحدر إلى أسفله، دون أن يعرف متى أو كيف أو إلى أين.
أنا لا أرى الصدف حجارة عادية؛ الصدف في نظري لآلئ برّاقة لا بدّ أن يكون هناك مَن ينظّفها ويرتّبها ليصنع منها سلاسل وأقراط وأساور يَهِبُها لمَن يراه قادراً على تقدير قيمتها.
كثيرون قد لا يتّفقون معي في ذلك ولا سيما مَن يُحبّون الدخول في أحاديث علم الاحتمالات ويعرّفون الصدفة على أنّها مجرّد وقوع حدثين – كأيّ حدثين- معاً، بغض النّظر عن مدى خصوصيّة هذين الحدثين بالذات.
في الحقيقة أنا أؤمن بأنّ كلّ ما في هذا الكون لا بدّ أن يكون مكوّناً من قسمين؛ ماديّ ولا ماديّ، وكما نستطيع أن نرى ونلمس ما هو ماديّ بعيوننا وأيدينا فإنّنا نستطيع أن نرى ونلمس ما هو غير ماديّ أيضاً؛ لكن بقلوبنا وعقولنا. وبالمقابل؛ بينما أستطيع أن أُمسك أحدهم من يده وأقوده إلى مكان ما لكي يرى ويلمس شيء ماديّ ما أستطيع رؤيته ولمسه فيقتنع معي بأنه موجود؛ فأنا بالتأكيد لا أستطيع أن أمسكه من قلبه أو من عقله لكي أثبت له وجود أمور غير ماديّة أشعر بها ولا أراها.
إنّ ذلك الشعور هو شعور فردانيّ بحت كما هو الشعور بالألم، لا يمكن أن أثبت لأحد بأنّني أتألّم بأن أُريه مكان الجرح، وحتى وإن صدّق بوجوده ظاهريّاً فهو لن يستطيع أن يقيسه أو يشعر به إلّا إذا جرّبه بنفسه.
وحتى على الصعيد العلميّ أرى بأننا مدينون للصدفة كثيراً، فلولاها لما استطاع ألكسندر فيلمنغ أن يكتشف فطر البنسلين ويغيّر مجرى الطب الحديث باكتشاف أوّل مضاد حيوي فعّال، ولولاها لما تمكّن رونتجن من اكتشاف الأشعة السينية التي أحدثت ثورة في علم التصوير الطبي ولا زالت حجر أساس في التشخيص الشعاعي حتى الآن. وأستطيع أن آتي بالكثير من الأمثلة على اكتشافات عدّة كانت وليدة صدفة مُتقنة تعثّر بها عالِم ما لكنّه لم يتركها تفلت من بين يدي عقله، فالتقطها وفكّر بها إلى أن وصل إلى نتيجة ما.
وكمثال آخر لا أستطيع أن أتجاوز ذكره هو أننا كنّا في السنوات الأخيرة في الكليّة نتهافت إلى سرير أي مريض نسمع بأنّ لديه متلازمة أو مرض أو عَرَض نادرين. الجميع يريد أن يوسّع بؤبؤي عينيه برؤية الحالات التي نسبة وقوعها بالمئة لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. ولهذا السبب يطالعني سؤال: كيف يمكن لصدفة غريبة ما تحدث مع الشخص نفسه ألّا تحرّك شيئاً فيه عندما يلقاها؟!
أنا أرى بأنّ الصدفة أو الاحتمال التقاطعيّ – إن أردت أن أُطلق عليها تسمية علميّة من اختراعي-؛ هي أمر كان ولا يزال مثيراً للاهتمام في كلّ الأزمنة والأمكنة ولا يجب أن يكون مجرّد حدث عشوائي عابر، لكنّه وكما كلّ الأمور غير الماديّة في هذا العالم لا يمكن أن نراه إلّا إذا شعرت ذواتنا بوجوده أوّلاً، سواء أكان ذلك الشعور بقلوبنا وإحساسنا كما هي الصدف الحياتيّة العاديّة، أو بعقولنا ودقّة ملاحظتنا كما هي الصدف التي تكتنف العلوم التجريبيّة.
ولأنني أحبّ صناعة المعاني من كلّ ما أفكّر فيه، وجدتُ بأنّ صُدفة جميلة جعلت من اللغة العربيّة تجمع في الحروف ما بين “الصُّدَف والصَّدَف”. وإنّ هذه المصادفة جعلتني أعود بذاكرتي إلى الطفولة وأتذكّر كيف أنّ صديقة لي عادت ذات مرّة من زيارة لها على البحر وأخبرتني بأنني أستطيع أن أسمع صوت الموج إن وضعتُ الصَّدَفة على أذني وأصغيت بدقّة. أعتقد الآن بعد كلّ ذلك الكلام بأنه لا داعٍ لأن يكون مستغرباً القول بأنّني أؤمن بأنّنا نستطيع سماع صوت البحر في صَدَفة تماماً كما نستطيع سماع صوت الترتيب الكونيّ الذي تُوشوش لنا به صُدْفةٌ جميلة نلتقي بها على عجل في أحد شوارع حياتنا اليومية التي تبدو ملأى بالعشوائية.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة