انتصارٌ “كبير” لزيلينسكي وجيشه في إقليم خاركيف وانسِحابٌ روسيّ مُفاجئ..
نجحت القوّات الأوكرانيّة، وبعد سبعة أشهر من اندلاع فتيل الحرب مع روسيا في شَنّ هُجومٍ مُضادٍّ مُباغت على نظيرتها الروسيّة في مِنطقة خاركيف قبل يومين، واستِعادة السّيطرة على 6000 كيلومتر مُربّع، في أكبر انتصارٍ ميدانيّ ومعنويّ، لكنّ الحرب ما زالت مُستمرّة، وتدرس القيادة العسكريّة الروسيّة التي تُواجه انتقادات شرسة من القوميين الروس كيفيّة الرّد حسب المُتحدّثين باسمها.
القيادة الروسيّة اعترفت بهذه الهزيمة، وانسِحاب قوّاتها بالتّالي من بعض المناطق في مِنطقة خاركيف، وحاولت التّقليل من آثارها بالتّذكير بأنّها ما زالت تُسيطر على أكثر من خُمس الأراضي الأوكرانيّة في الجنوب الشّرقي من البلاد، ولكن هذا التّبرير لا يُقَلّل من حجم الصّدمة وانعكاساتها الداخليّة والخارجيّة.
هذا الانتصار الأوكراني المُفاجئ الذي جاء بعد ستّة أشهر من الهزائم على مُعظم الجبهات ما كان يتحقّق لولا تدفّق المعدّات العسكريّة المُتطوّرة على الجيش الاوكراني من الولايات المتحدة ودول أوروبيّة أُخرى بعشرات المِليارات من الدّولارات، وقد اعترف السناتور مارك وارنر رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأمريكي بأنّ هذا الهُجوم المُضاد والنّاجح كان أوّل ثمار التعاون الاستِخباري الأمريكي البريطاني مع مُخابرات الجيش الأوكراني وقِيادته في الأسابيع الأخيرة، وهو اعترافٌ قد تكون له عواقبٌ وخيمة.
خُطورة هذا الاعتراف من قبل السناتور وارنر تؤكّد أن التدخّل العسكري الاستخباري الأمريكي البريطاني أصبح مُباشرًا، وعلى أعلى المُستويات، الأمر الذي قد يؤدّي إلى مُواجهةٍ عسكريّةٍ مُباشرة مع روسيا إنْ آجلًا أو عاجلًا، خاصَّةً أن أمريكا ظلّت تقول طِوال الأشهر الستّة الماضية أنها لم تتدخّل في الحرب، وينحصر دورها في تقديم أسلحة دفاعيّة للجيش الأوكراني.
الرئيس الاوكراني زيلينسكي وبعد هذ الانتصار الذي بالغ في تضخيمه، والحال نفسه ينطبق على أجهزة إعلام أمريكيّة وأوروبيّة، باتَ يتحدّث عن استرجاعِ جميع إقليم دونباس وتحرير شِبه جزيرة القِرم، وربّما يندم على هذه المُبالغات في الأسابيع، بل ربّما الأيّام القليلة المُقبلة، فالحرب جولات، وما زالت روسيا دولةً عُظمى، وتملك أكثر من سبعة آلاف رأس نووي.
الرئيس الأوكراني وحُلفاؤه، في حِلف النّاتو باتوا في حاجةٍ ماسّة إلى هذا النصر في خاركيف في ظِل الهزائم المُتلاحقة الأخيرة، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، لرفع معنويات الرأي العام الغربي، ومُحاولة رصّ الصّفوف المُنقسمة في أوروبا خاصَّةً، واتّساع الشّرخ بينها، أيّ أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكيّة، وهذا الشّرخ الذي انعكس في مُظاهراتٍ صاخبة في ميادين عواصم أوروبيّة مُهمّة مِثل ألمانيا وبراغ احتجاجًا على الحرب، والارتفاع المُذهل في أسعار الطّاقة ومُستويات المعيشة مع دُخول القارة المُتسارع في فصل الشّتاء الجليدي القارس.
تهديد الرئيس بوتين الصّارم بوقفٍ كامل لإمدادات الغاز والنفط الروسيّة، إذا فرضت الحُكومات الأوروبيّة سقفًا على أسعار الطّاقة أعاد أوروبا إلى رُشدها، ودفع حُكوماتها إلى التخلّي فورًا عن هذا القرار، ولو لم تفعل لواجهت موجات احتجاج يُشارك فيها عشرات الملايين، وقد تُؤدّي إلى انتخاباتٍ مُبكّرة ومن ثمّ سُقوطها، فنحن لا نتحدّث هنا عن مُظاهرات ضدّ غزو العِراق، وإنّما عن مظاهراتٍ من أجل لُقمة العيش والكهرباء وارتفاع تكاليف المعيشة وتدهور الخدمات.
اللّجوء إلى خِيار تحديد سقف لأسعار النفط والغاز الروسيين، جاء لتخفيض تدفّق المِليارات شهريًّا على الخزينة الروسيّة بسبب ارتفاع الأسعار، وفشل العُقوبات الاقتصاديّة الأمريكيّة، بل وإعطائها نتائج عكسيّة، أيّ تصليب الاقتصاد الروسي ونموّه بدلًا من تقويضه، وإلحاق أكبر قدر مُمكن من المُعاناة على الشّعب الروسي، وتوثيق العُلاقة بين موسكو وبكين، وتكثيف جُهودها المُشتركة لخلق نظامٍ ماليٍّ جديد وتدمير عرش الدّولار.
مُشكلة الأمريكان الذين أدمنوا استِخدام سِلاح العُقوبات الاقتصاديّة، اعتقدوا أنّ روسيا والصين، الدّولتان العُظمَيان، هُما عِراق صدّام حسين، أو ليبيا معمّر القذافي، وأنّهما بُدون التفافٍ شعبيّ، وحاضنات حليفة قويّة مِثل دول البريكس إلى جانب إيران وكوريا الشماليّة والقائمة تطول.
هُناك خِيارات عديدة ما زالت مطروحةً على الطّاولة أمام الرئيس بوتين يجب أخذها بعين الاعتبار، أبرزها وضع ثُقل عسكريّ أكبر في الحرب الأوكرانيّة، أيّ زيادة عدد القوّات، وإدخال أنواع أكثر تَطَوُّرًا من الأسلحة والمَعدّات الثّقيلة، أو اللّجوء إلى التّعبئة العامّة مثلما يُطالب حُلفاؤه القوميّون المُتطرّفون، ولا ننسى في هذه العُجالة احتِمال اللّجوء إلى أسلحةٍ نوويّة تكتيكيّة.
انتصار الجيش الأوكراني في خاركيف لا شكّ أنه على درجةٍ كبيرةٍ من الأهميّة من الوهلةِ الأولى، ولكن قد تترتّب عليه نتائج في قمّة الخُطورة، أبرزها توسيع دائرة الحرب، وجرّ الولايات المتحدة إلى آتونها، وتحويلها من حربٍ أوكرانيّة روسيّة، إلى حربٍ أمريكيّة روسيّة، عالميّة نوويّة، فالرئيس بوتين وحسب المُقرّبين منه الذين يعرفونه جيّدًا ونحن على اتّصالٍ مع بعض العرب منهم، لن يقبل بالهزيمة وسيذهب في هذه الحرب إلى نهاية الشّوط، ولم يُجانب هنري كيسنجر الثّعلب الأمريكي الدّاهية هذه الحقيقة عندما نقل رسالة تحذير واضحة إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن تقول إيّاكم من هزيمةِ بوتين حتّى لو استطعتم.. والأيّام بيننا.