بعد خمس سنوات.. هل فشلت الثورة؟

مزيج من الغضب المكتوم و الحسرة والملل يغلف المدينة التي عرفْتها “قاهرة” وقاسية، ولكن نابضة بالحياة. على مدى خمس سنوات تغيرت المدينة – على الأقل في إدراكي ومخيلتي- ليس للأسوأ بالضرورة كما يحب بعض تابعي مدرسة “الزمن الجميل” أن يروّجوا، ولكنّها تغيرت وأكاد أجزم أنها لن تعود كما كانت. ما بين إحباط وتشتت من أيّدوا الثورة وظنوا أن الأفضل ممكن، وإرهاق مَن تابعوها باهتمام وترقب، وحتى مَن كانوا يعارضونها وظلوا كذلك، ويؤمنون أنها مؤامرة وما زال الخوف يعتريهم من هذا الزلزال الذي حدث في 2011، وتبعاته موجودة حتى وإن خمدت مؤقتاً. وسؤال كل هؤلاء على اختلاف مشاربهم هو: ماذا بعد؟ سؤال يدور في ذهن الجميع وإن لم يجرِ على ألسنتهم، وهو يشغل بالذات القطاع الأكبر ممن حلموا وآمنوا بثورة 2011 في مصر: هل فشلت الثورة؟ لا أعتقد أن أحداً، مهما ادّعى، يمكنه أن يجيب على هذا التساؤل بقطعية. ولكن تبقى هناك شروط ونقاط بدء ضرورية حتى وإن كانت غير كافية، لنتمكن من فهم ما حدث، وبالتالي – والأهم – ما يمكن أن يحدث.

علينا أن ندرك أنّ ما تمر به مصر منذ خمس سنوات ليس مجرد حراك سياسي أو حتى محاولة ثورة مجهَضة، ولكنها عملية تحول تاريخي تشمل المجتمع ككل، ببنيته السياسية والثقافية. وهي لذلك ربما تستمر عقوداً. فدولة ما بعد الاستعمار التي تشكلت في منتصف القرن الماضي بلغت منتهاها بحيث لم تعد قادرة، بشكلها الحالي، على الإيفاء بأدوارها المتعددة في إدارة المجتمع، ولا حتى بالحصول على شرط القبول من أجيال جديدة لم تعد ترضى بفكرة استبدال الحرية بالوفرة الاقتصادية – وهذه ليست موجودة – أو إهدار الكرامة الفردية في دولة بوليسية تحت دعاوى الأمن والاستقلال الوطني. نحن في خضم معركة إعادة تعريف وسؤال حول ما كان مسلمات. لم يعُد التحجج بفكرة الاستقلال الوطني والمؤامرة الكونية كافياً لإخضاع أجيال الألفية الجديدة، الذين تشكل وعيهم السياسي في ظل الثورة، بمن فيهم من لم يشاركوا فيها. فمفاهيم الوطن والعزة والكرامة أصبحت جزءاً من النقاش العام، وأصبحت مرتبطة بحياتهم الشخصية ولم تعد مفاهيم مجردة، وبالتالي فلم يعد مطلع الأغنية الشهيرة “ما تقولش إيه إديتنا مصر؟” كافياً للرد على تساؤلاتهم وطموحاتهم في حياة أفضل على المستوى الفردي والعام. فكما كان مشروع الدولة المستقلة هو حلم أجيال القرن العشرين، فإن حلم المجتمع الحر هو مشروع أجيال القرن الحادي والعشرين، وهو حلم شخصي وإنساني وليس من قبيل الوطنية الزائفة. ولذلك فمحاولة وأده مستحيلة حتى وإن خفتت محاولات تحقيقه مؤقتاً.

على جانب الآخر، فإن دولة الرفاه القادرة على توفير الصعود الاجتماعي من خلال التعليم والتوظيف – حتى وإن كانت سلطوية – انتهت. فمع أزمة الرأسمالية العالمية وطموحات البناء في دول الخليج، لم تعد الدولة المصرية قادرة على تلبية احتياجات مواطنيها، لا عن طريق محاولة النهضة الصناعية كما كان في عهد عبد الناصر، ولا عن طريق تقديم نموذج الانفتاح الساداتي، ولا حتى عن طريق الدولة الريعية (تصدير العمالة لدول الخليج و الاعتماد على معوناتها)، كما كان الحال في سنوات مبارك. كل هذه النماذج الاقتصادية استنفدت لأسباب عالمية وإقليمية. استنفاد هذه النماذج لا يعني فحسب زيادة الضغط على النظام من ناحية الغضب الشعبي، ولكنه يربك نظاماً مرتبكاً أصلاً. ولهذا نرى التضارب ما بين محاولة إحياء فكرة المشروعات الكبرى مثل تفريعة قناة السويس وإنشاء عاصمة جديدة، وفي الوقت نفسه محاولات تمويل الاقتصاد عن طريق جبايات رجال الأعمال في مبادرات صغيرة مثل صندوق تبرعات “تحيا مصر”. فالنظام لا يعرف إذا كان يريد أن يعتمد على القطاع الخاص أم على الدولة كفاعل اقتصادي، ويبعث برسائل متضاربة في هذا الإطار الذي هو أصلاً متأزم بفعل أزمة الرأسمالية العالمية.

في الوقت نفسه، يمر المجتمع بحالة مخاض، ليس فقط على مستوى العلاقة بالدولة وشكل النمو الاقتصادي وإمكانية تحقيقه، ولكن وأيضاً على مستوى الأنساق الاجتماعية والثقافية وعلاقة الأفراد ببعضهم البعض. فالقرى والنجوع تحوّلت لمدن صغيرة، وهيمنة الدولة على الإعلام الداخلي والتعليم والمؤسسة الثقافية يقابلها انفتاح غير قابل للتحكم من خلال الإنترنت وتعدد مصادر التعلم الذاتي، وسيطرة المؤسسة الدينية يقابلها صعود تيارات دينية ربما تكون أسوأ وأكثر تشدداً ولكنها تكسر فكرة احتكار الدين وهيمنة المؤسسة الواحدة. تصارُع هذه الاتجاهات يعيد تشكيل المجتمع والفرد بمعنى تاريخي لم نشهده منذ نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع انتهاء الخلافة العثمانية وصعود فكرة القومية العربية وتحرر المرأة وما إلى ذلك، وهو صراع يتجاوز فكرة الحراك السياسي الذي أصبح مجرد قشرة لتغيرات أعمق يعتمل بها المجتمع.

ثم إنّ المنطقة ككل والعالم يشهدان تحولات سريعة لسنا بعيدين عنها ولو ظن البعض ذلك. وقد أصبح المسرح الإقليمي يشبه ما مرّت به أوروبا والعالم في فترة النصف الأول من القرن العشرين، ما بين حروب عالمية والثورة الروسية وصعود الفاشية والنازية وانتهاء القوى الاستعمارية القديمة والدولة العثمانية وصعود حركات التحرر وترسيم حدود دول جديدة وبداية الحرب الباردة. فما بين صعود قوى ما فوق الدولة مثل داعش وحتى حزب الله، كلاعبين إقليميين، وتغير خريطة تحالفات الدول ببروز إيران وتركيا وصعود الصين وروسيا للعب دور طموح دولياً وبشكل مكثف في المنطقة.. تغيرت خريطة وطبيعة اللاعبين الإقليميين، وتغيرت طبيعة اللعبة ككل، بحيث لم يعد ممكناً حصرها في إطار إدارة صراعات قوى هادئة وطويلة المدى. بل، وعلى العكس من ذلك، أصبح ما نشهده هو تكثيف واستحضار للحظة انفجار وشيكة ستعيد ترسيم شكل المنطقة حتى على مستوى ماهية الدول وحدودها، كما عرفناها خلال القرن الفائت، وتعيد تعريف مفهوم سيطرة الدولة على أدوات العنف المشروع والحدود الإقليمية الثابتة، كما درسناها في العلوم السياسية.

ويشهد العالم أزمات متتالية بدءاً من الأزمة المالية في 2008 وليس انتهاء بالأزمة اليونانية. وهذه الأزمات تهدد طبيعة النظام الاقتصادي العالمي كما نعرفه، أو هي على الأقل تشي بحجم المشكل الذي يوجهه النظام الرأسمالي العالمي. وبشكل موازٍ، يأتي صعود حركات مثل “احتلال وول ستريت”، أو “بوديموس” في إسبانيا و”النجوم الخمس” في إيطاليا، وأفول نجم الأحزاب السياسية كأداة رئيسية لإدارة الصراعات والتنافس السياسي، وصعود الخطاب اليميني المتطرف في أوروبا كما في المنطقة العربية (مع اختلاف الأدوات والدوافع).. تأتي هذه المتغيرات لتعكس حجم التغير الذي يُقبِل عليه العالم ككل، بما في ذلك ما استقرّ عليه العالم في ماهية الشكل السياسي الأمثل ومعنى الديمقراطية وإدارتها. ونحن لسنا بمعزل عن هذه التغيرات. فإن كان ظهور النازية في ألمانيا والثورة البلشفية في روسيا قد غيّرا وجه العالم، بما فيه تبعاتهما على مصر والمنطقة في فترة سابقة لم يكن فيها الاقتصاد ولا التواصل العالمي قد بلغا ما بلغاه اليوم من تداخل، فإن من المنطقي تصور حجم تأثير هذه المراجعات السياسية والاقتصادية على بلادنا في هذه المرحلة.

في المجمل، نحن بصدد إرهاصات انتهاء مرحلة تاريخية داخلياً وإقليمياً وعالمياً، حتى وإن لم يعنِ ذلك انتهاءها غداً. نقطة البداية هي فهم طبيعة المرحلة ثم يأتي طرح الأسئلة عما نرجوه كجماعات وكأفراد لشكل المستقبل، ورسم خطط مبدئية لكيفية الوصول لذلك، علماً بأن عنف الدولة كما عنف جماعات ما فوق الدولة هو مشهد غير مستدام وغير قابل للاستمرار إلى ما لا نهاية. وبهذا المعنى، يصبح سابقاً لأوانه الحكم على مآلات الثورة المصرية، أو ما سُمّي بالربيع العربي ككل. فنحن نشهد بداية الفصل الختامي لمرحلة في تطور المجتمع الإنساني، ولكن المشهد الختامي لم يكتب بعد. رحم الله كل شهيد وكل لاجئ وكل سجين.. وكل مَن خرج وعمل، لا يبغي سوى مستقبلاً أفضل للإنسان.

* استاذة العلوم السياسية في الجامعة الاميركية بالقاهرة

صحيفة السفير اللبنانية (السفير العربي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى