بقاءٌ أم فناء؟!:في هذه الأيّام؛ يجد المرء نفسه غارقاً بأسئلةٍ كثيرةٍ تتصاعدُ من رأسهِ كما تتصاعدُ الأبخرةُ الحارّةُ من إناء مغلقٍ يكادُ أن ينفجر..
كنتُ في قسم الأمراض الباطنة عندما رأيته ممدّداً على سرير الغرفة المطلّ على النّافذة المفتوحة، ومجموعة من الأطباء يتحلّقون حوله ويقومون بفحصه، كان رجلاً طاعناً في السّن، عيناه غائرتان في محجريهما كما لو أنّهما بئرا ماءٍ منسيّان منذ عقود، وكان فمهُ قطعةً من أرضٍ يابسة هجرتها قطرات المطر حتى تشقّقت بالكامل.
وبنظرةٍ خاطفةٍ على أطرافه النحيلة وعظامه البارزة على امتداد جسده وقفصه الصدري الذي يعلو ويهبط بوتيرة متسارعة؛ لم يكن يصعب على كل من يتأمّله أن يرى ذلك الظلّ الثّقيل الدّاكن وهو يخيّم على سريره الأبيض مانعاً ضوء النّافذة من التسرّب إليه.
كانت ابنتهُ تقفُ إلى جانبه تتابع حركات الأطباء وكلامهم بالكثير من التوجّس، ويبدو أنّها كانت تلتقطُ معلوماتها عن حالةِ والدها من إيماءاتهم ونبرة أصواتهم أكثر من الكلام الطبّي الذي يقولونه.
سمعتُ أحدهم يقول له بينما يمسك بمعصمه الهزيل محاولاً قياس نبضه: لقد انخفض وزنك انخفاضاً كبيراً يا عمّ أبو محمد، فمنذ يوم قبولك في المستشفى وأنت بالكاد تشرب القليل من العصير وتأكل بضعة لقيمات صغيرة!
يتابع آخر قائلاً: عليكَ أن تركّب الأنبوب الأنفي المعدي فهو ضرورة في وضعك هذا.
كان العمّ أبو محمّد يهزّ برأسه يميناً ويساراً ويطلب منهم بتهذيب ألّا يجبروه على ذلك، دون أن يتفوّه بسبب واضح.
خرج الأطباء من الغرفة متمتمين بعبارات تمنّي العافية، مستسلمين لعدم قدرتهم على إقناعه بإمكانية استرداد تلك العافية من خلال أنبوبٍ رفيعٍ يدخل من أنفه وحتّى معدته ويمنحهُ بعضاً من غذاءٍ سيسندُ جسده لبعض الوقت.
وقفتُ أحدّق بذلك السّرير وبتلك النّافذة المُشرعة من خلفِهِ سامحةً للهواء في الخارج بمراقصةِ الستارة بخفّة، فكّرتُ بأنّه عليّ أن أدفع بذلك الظلّ الأسود المقيت بعيداً، فأنا لا أستطيع أن أرى إنساناً لا يمكن لعينيه أن تتحسسا النّور، كنت أريد أن أفتحَ غطاءَي البئرين لتتسلّلَ أشعةُ الشمس إليهما ثمّ أرفعُ دلوهما إلى الأعلى وأملؤهما بالمياه من جديد لعلّهما تتذكّران يومَ كانتا مقصداً للمارّين العطاشى فتعودان إلى حيويّتهما وبريقهما.
لطالما كان هناك الكثير من الأحاديث المطوّلة حول انتصار إرادة الحياة على الموت، فالإنسان من وجهة نظر تطوّرية وعضويّة وفلسفيّة ودينيّة يسعى إلى البقاء لا إلى الفناء، وإن أصغينا جيّداً سنسمع في بكائه وصرخاته الأولى صوتَ غريزة البقاء المزروع فيه منذ ولادته وهو يصدح في كلّ مكان رغم كلّ الألم والضعف والعجز الذي يكتنف أنفاسهُ الرّفيعة في تلك اللحظات.
اقتربتُ منه وحيّيته هو وابنته الجالسة إلى جواره، استأذنتهما بالحديث إليهما قليلاً، وبدأتُ بمحاولة إقناعهما بأنّ ذلك الأنبوب سيبقى لفترة وجيزة وسيمنع تدهور حالته أكثر.
كانت الابنة متفهّمة للوضع جيّداً ولكن يبدو أنّها كانت تتفهّمُ والدها بشكل أكبر، وبعد عدة محاولات يائسة أنهى العمّ أبو محمد النقاش ببضع عبارات توقّفتُ عندها كثيراً، وكانت بما معناه: أريد أن أموت مرتاحاً يا بنيّتي، والأنابيب هذه لن تفيدني في شيء سوى أنّها ستقلّل من أناقةِ موتي!.
يبدو أنّه أقنعني بدل أن أقنعه، هززتُ رأسي وأنا أنظرُ إلى عينيه الذّابلتين وقد علمتُ حينها بأنّ الأمر أكبر وأعمق من مجرد إطالة أمد العمر، وبأنّ هناك اعتبارات كثيرة في النّفس البشريّة تستطيع من خلالها الانتصار على غريزة البقاء.
تراءت لي صور أولئك الذين يتشبّثون بأرضهم ويرفضون الرّحيل عنها رغم كلّ ما يقاسونه من الألم والجوع والعطش والخوف، كما لو أنّهم لا يجدون معنىً للحياة أو للموت سوى على تلك البقعة من الأرض.
أضع نفسي مكانهم وأتساءل: إن كان هناك منفذٌ للهروب من خلال طريقٍ محفوفةٍ بالمخاطر لكنّها موجودة؛ هل سأختار النّجاة بحياتي مدفوعةً بغريزة البقاء أم سأفضّل الفناء في منزلي على الأرض التي أنجبتني؟!
قد لا تكون خيارات الحرب بتلك البساطة للأسف، ففي الحروبِ اللّعينة قد يكون هذا السّؤال تخييراً بين موت وموت آخر أكثر من كونه تخييراً بين موتٍ وحياة!
ولكن وفي جميع الأحوال وجدتُ بأنّه من الصعبَ جدّاً التنبّؤ بتفكيرِ المرء حيال هذه المواضيع حتّى بالنسبة للمرء ذاته، فالتّفكير فيها يختلف باختلاف الزمان والمكان والموقف، ويتطلّب أكثر بكثير من مجرّد تخيّل الأمر وهو يحصل.
بوابة الشرق الأوسط الجديدة