بوتين والبغدادي مَن ثالثهما؟

في الحروب، تكون السرديّات جزءاً من عدّة الصراع. يقدّم طرفٌ روايته للأحداث ويسوّقها بقصد شدّ عصب بيئته ورصِّ صفوف مناصريه، وبغرَضِ اجتذاب أو تحييد ما أمكن ممن لم يحسموا أمرهم بعد. وسوريا، على مدى عُمر حربها الضروس، لم تكن استئناءً بأي حال من الأحوال.

هكذا، أدلى طرفٌ بدلوه في ما يخص «المؤامرة» الكونية عليه، كما لو أنها هطلت من سماءٍ لا غيم فيها ولا مقدّمات داخلية لها. فيما تمرحل طرفٌ آخر في مطالبه من شعار «الحرية» إلى «الثورة المسلّحة»، وصولاً إلى تبرير التعاون مع جماعاتٍ تقاتل لفرض مشيئتها بحدّ السيف، على أقل تقدير. أما السائرون خارج الثنائيات تلك، فمنطقهم كان ضعيف التأثير لقلّة الحيلة والجدوى. إذ فوق قرقعة السلاح ونفير المعارك الوجودية.. يصعب لصوتٍ آخر أن يعلو.

الفرز في سوريا اليوم إذاً، قائمٌ على الروايتين الأكثر تعبيراً عن مجريات الميدان. وهو يعكس هواجس منطقين متقابلين. الأول يقول: نُسقط النظام. فيما يردّ الثاني: بل نحفظ الدولة.

ومن رحم هاتين السرديتين الطاغيتين وُلدت مصطلحات وملأت الفضاء العام، وتواجهت افتراضياً في موازاة القتال الدائر على الارض. فـ «الثوار»، في السردية الأخرى، هم «الإرهابيون» أنفسهم. و»حُماة الديار»، في الرواية المقابلة، ليسوا سوى «جيش الأسد».

غير أن كلاً من التصنيفين المذكورين، يختزل واقعاً أكثر تركيباً. فخلف كل طرفٍ مفترض، ثمة لاعب ثانٍ وثالث ورابع. «الثوار»، مثلاً، هم طيفٌ واسعٌ من الجماعات المُسلحة. ولئن غلب عليها الطابع الإسلامي، فبعضها لديه قابلية للانحراط في عملية سياسية مُقبلة، وبينها من يحتاج لـ «إعادة تدويرٍ» حتى يتمكن من ذلك، فيما قسمٌ ثالث منها يصعب دمجه في مسار من هذا النوع، لتجاوزه حد الفاشية بأشواط أو لتشكيله خطراً على الأمن والسلم على مستوى الإقليم والعالم.

يأتي الدخول الروسي الأخير على خط الأزمة السورية بهذا الوضوح تحت لافتة «مواجهة الإرهاب»، ليرفد مشهد الثنائيات المذكور بعاملٍ إضافي ولينعكس على ميدانياته. وتحت لافتة «مواجهة الإرهاب»، يمكن تحديد مساحات مرنة لتحرك طائرات «سوخوي»، ومواكبتها بـ «درونز»، وإلحاقها بالمروحيات القتالية «هيند»، وسائر العدة القتالية التي يجري تجميعها على الساحل السوري.

لكن مَن المستهدف على الجانب الآخر؟ هل هو تنظيم «الدولة الإسلامية» حصراً أم ثمة جملة من اللاعبين الآخرين أيضاً؟ ثم ما هي معايير تحديد المُراد استهدافهم؟ أهي القابلية للدمج في عملية تسوية سياسية أم خلاف ذلك؟

حين أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان انطلاق حملته العسكرية ضد «داعش»، استخدم الأمر ستاراً لضرب «حزب العمال الكردستاني» وامتداداته السورية. فما كان من تنظيم «الدولة» إلا أن رد على إعلان الحرب والغارات التركية شبه الوهمية ضد قواعده، بإعلانٍ وهمي مقابل، أكد فيه «عزمه على تحرير القسطنطينية».

يمكن للجانب الروسي أن يلعب لعبة مشابهة، مع فارق جدية الحرب على «داعش»، بحيث يعلن استهدافه لتنظيم «الدولة» الذي يحظى إرهابه بإجماع عريض، فيما يضرب توازياً في اتجاهات أخرى. الأكيد أن بوتين، مثلاً، مهتم باستئصال عناصر الجماعات «الجهادية» الآتين من القوقاز أو الناطقين بالروسية بشكل عام، والتي تقدّرهم بعض التقارير بنحو ألفي مقاتل، قبل أن يفكّروا بالعودة إلى بلادهم، أو أن يضاعفوا من أعدادهم ويرفعوا من أسهمهم في أرياف الشمال السوري.

كما يمكن فهم «التنسيق» الأميركي – الروسي (فضلاً عن الحاجة «التقنية» لذلك في سماء تزدحم بالطائرات) في إطار الرغبة الأميركية بوضع ضوابط للعمليات العسكرية الروسية، بحيث لا تستهدف الهجمات جماعاتٍ تمتلك قابلية للاندماج في عملية سياسية مُقبلة، أو تلك التي ما زالت تجري محاولات لـ «إعادة تدويرها».

حالياً، ثمة صعوبة في التوصل إلى «اتفاق» على فرزٍ واضح لـ «الثوار». فإن كان تنظيم «الدولة» يحظى بإجماع، ولو لفظي، لناحية التعامل معه كحالة إرهاب نموذجية، فإن التعامل مع «جبهة النصرة» يبقى مثالاً للازدواجية، خصوصاً بعد المساعي القطرية الدؤوبة ـ المتعثرة حتى اللحظة – لإقناعها بفك ارتباطها بتنظيم «القاعدة»، فيما تبدو «أحرار الشام» أقرب من «النصرة» من مرحلة «إعادة التدوير» برعاية تركية – قطرية، وترتبط جماعاتٌ أخرى بدول داعمة شتى، تقدر على تطويعها إن لزم الأمر ذلك (كـ»الجبهة الشامية» المحتضَنَة تركياً، و»جيش الإسلام» المدعوم سعودياً…).

غير أن المعيار الروسي في تصنيف الجماعات، أكثر حسماً ووضوحاً من معايير تركيا ودول الخليج. إذ لا يكفي فك الارتباط لفظياً عن «القاعدة» للحسم بصلاحية تنظيم ما للعمل السياسي. بل يقتضي الأمر انفضاضاً فكرياً وممارسة عملية كذلك. لا حاجة إلى جهبذٍ لإدراك الفارق الكبير بين ما يردُ في الموقع الرسمي لـ «أحرار الشام» على الانترنت، مثلاً، والمقالة التي كتبها مسوؤل العلاقات العامة للجماعة في «واشنطن بوست» قبل أشهر، والتي كاد أن يبدو فيها مناضلاً ليبرالياً بامتياز. كذلك لا يسعُ الأجهزة الروسية أن تغض النظر عن تعاون الجماعة نفسها، مثلاً، مع «جهاديي» القوقاز في غزواتهم في الشمال السوري.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أرسل رجاله وآلياته للمشاركة في معارك ستتضح معالمها شيئاً فشيئاً مع مرور وقتٍ قصير. تنظيم الخليفة أبي بكرٍ البغدادي في الواجهة اليوم. هو الأكثر تعبيراً عن «سردية» الإرهاب. بيد أن إعادة الفرز والتصنيف، بما يتجاوز تعميم السرديات، أمرٌ لا مفرّ منه. حينها، تنكشف طبيعة المعركة المقبلة وهوية أطرافها وأحجامهم في سوريا.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى