بين الاختلاف والخلاف والخلافة …

سمعت زائراً عربياً ينصح ابنه الذي تمادى في تعنيف شقيقه قائلاً ” انظر وتعلّم من الدمشقيين كيف يتخاصمون في الأسواق أيها الأحمق …إنهم يشبهون بالتمام والكمال أبطال مسلسلاتهم التلفزيونية …يتلاسنون، تعلو أصواتهم ..لكنهم لا يشتبكون بالأيدي أبداً …ينتهي الأمر بتقبيل الشوارب واللحى….وكأنهم يفعلون كلّ ذلك لأجل “حلوان الصلحة “.

أضفت معقّباً ..” مع فارق بسيط وعميق، وهو أنّ الشوارب واللحى حقيقية وليست مستعارة، كما أنّ “حلوان الصلحة ” ليس “راكوراً تلفزيونياً ” يحافظ عليه إلى ما بعد التصوير أو يقع التهامه في كل مشهد يعاد تكراره دون إحساس بجدواه….أمّا جهة الإنتاج والإخراج والتسويق فمسألة فيها نظر .

لا يصدّق كل من عرف وخبر المجتمع السوري أنّ هؤلاء الناس الذين يفوح من لغتهم عطر الغزل ومفردات المجاملة قد يتقاتلون فيما بينهم ويتربّص الجار بجاره لأجل ضغينة لم توجد أصلاً في قواميسهم .

كيف لتاجر من سلالة غزت أسواق الشرق والغرب، يبيع ويشتري في الحلال من كل الألوان والأرهاط، يحلّ ويربط بلسانه، كيف له أن ينجرّ لفتنة تذهب برزقه ؟ .

كيف لشاب أو صبيّة أن تضمر الكراهية لمن تتشارك معها مقاعد الجامعة ودروسها وكتبها ومبيتها وأحلامها ؟

يقرّ السوريون قبل غيرهم أنّ لديهم حزمة من المشاكل والاستحقاقات التي عليهم التفكير في حلّها بجديّة ودون مزايدات، لكنّ كرامتهم لا تسمح بالارتهان لغيرهم وهم المعروفون بعزّة النفس والاعتداد بتاريخ نتمنّى أن يجرّوه دائماً لا أن يجرّهم .

من الذي يدفعهم دفعاً إلى مستنقع الفتنة والاقتتال فيما بينهم يا ترى ؟ ما من عارف للشام وسماحة أهلها إلاّ وانصعق لقتامة المشهد، بل وبكى حسرة على هذا الكحل الذي يسرق من سورية ….من أجمل العيون العربية وأكثرها سحراً ودهشة .

قد نتّهم أنفسنا بالتستّر تحت نظرية المؤامرة كأيسر وأوهن طرق التفسير والتبرير، لكنها الحقيقة التي تطلّ برأسها صريحة مثل ضبع وقد أدركه ضوء النهار .

كنّا نصف الإعلام الرسمي المدجّن بالمبالغة والاستبلاه، لكنّ أكثر من شاهد قد شهد بالحجّة والدليل أنّ أيدي الآخرين ملطّخة بدماء السوريين وبغير حق………السوريون الذين لم يمدّوا للعالم إلاّ أياديهم مصافحين …أياديهم التي تطعم الحمائم وتسقي النبات.

قد نعزّي الروح بأن لا تستهدف إلاّ الأشجار المثمرة والقلاع الحصينة لكنّ شيئاً علينا فعله جميعاً قبل أن نتنفّس تحت الماء، وهو أن تسعى كل النخب الثقافية العربية ـ وكل من موقعه ـ بأن تكون سورية لكل السوريين وحدهم دون غيرهم وأن لا يتحوّل حراكها الشعبي والسياسي المشروع إلى حصان طروادة في حرب المصالح القذرة.

إنّ قدر الأصابع السورية هو المهارة والإتقان والإبهار وليس تبادل الاتهامات ومسك الأسلحة وهراوات الفتنة التي أيقظتها عمائم الجهل وطرابيش وقلنسوات الأطماع الإقليمية .

نعم أيها الصديق العربي، علّم ابنك الاختلاف الذي يفضي إلى المصالحة على الطريقة الدمشقية، علّمه كيف لا تتطوّر الملاسنة إلى مناطحة، علّمه تقدير الشوارب واللحى الحقيقية وليس المستعارة .

علّمه كيف يقدّر ويشتاق لمن لقّن العالم أوّل أبجدية في التاريخ ….الأبجدية التي لم يجترح منها الكارهون الآن إلاّ مفردات الفتنة والعنصرية المقيتة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى