تاريخ…» زهير هواري.. إنقاذ الذاكرة الأهلية (احمد زين الدين)

 

احمد زين الدين

في عودة الى القرنين التاسع عشر والعشرين، يسترجع زهير هواري الظروف والملامح التاريخية لقريته المنصورة (البقاع الغربي) عبر نزوله من البرج العاجي الذي احتضن الكتابة التاريخية الكلاسيكية، إلى أعماق الذاكرة الجماعية الشفهية لفلاحي القرية. الذاكرة المهمّشة والمنسية، التي طالما عوملت بازدراء ودونية. ومع معرفة هواري بصعوبة التعامل مع الموروث الشفهي غير الموثوق به، لما يشوبه عادةً من إضافات واختراقات ايديولوجية، ومن اختلاط الحقيقي فيه بالزائف والمختلق. إلا أنه اختطّ لنفسه هذا الطريق المحفوف بالمشقة، بعد تصفية هذا الموروث وغربلته من النقص والتناقض، وتعديله او استكماله بالمصادر المدوّنة. تصويباً للكتابة التاريخية التي خضعت لمصالح سياسية وطبقية وطائفية.
أعاد هواري تشكيل التاريخ الأهلي المهمل مرتكزاً على ذاكرة أبناء قريته الذين أُسقطوا من المتون الرسمية، مع انهم كانوا المنخرطين الحقيقيين في صناعة تاريخهم بما بذلوه وكابدوه، وحققوه من انتصارات حقيقية أحياناً، ومتخيلة أحياناً أخرى. وقد اسهموا في بناء هوية محلية، عقب التحوّلات الاقتصادية والسكانية التي شهدها لبنان، والتي انعكست داخل البلدة استقطابات وصراعات بين الزعامات على التراتبية، وولاءاتها الخارجية.
وإذا كانت القرية موضوعاً لأطروحات سادت في حقبة غابرة في أوساط الجامعة اللبنانية، لأنه كان موضوعاً «مريحاً» للطلاب، فإن هواري وقف على ضوابط أكاديمية ومعايير مقننة ومتطورة، تُدرجه (بتحفّظ) في باب ما اصطُلح على تسميته في فرنسا بعلم الاجتماع القروي الذي ازدهر في خمسينيات القرن الماضي، في سياق رصد عملية انحلال الأطر الريفية القديمة لبناء روابط جديدة، تتناغم مع التبادلات المعولمة والتحديث والعصرنة. ومع انتاج قيم اجتماعية ورموز ومقومات مادية لإعادة صوغ استراتيجيات مبتكرة، تحظى فيها الأرض، وما ينجم عنها من علاقات اجتماعية واقتصادية بمكانة متميّزة.
وتاريخياً، يُعزى الانصراف عن الموروث الشفهي إلى سياسات التخطيط اللغوي الذي اعتمدته القوى الكولونيالية في البلدان الملحقة بمدارها، من أجل تعزيز اللغة الاستعمارية سبيلاً وحيداً لتكوين النخب الثقافية القادرة على تحمّل أعباء الحكم بعد الاستقلال.
وقد وطّأ زهير هواري لكتابه «تاريخ من لا تاريخ لهم» («منشورات ضفاف») بمقدمة عامة شرح فيها المنحى المنهجي لكيفية التعامل مع المعطيات المتوافرة بين يديه من شهادات ومرويات وأرشيف ووثائق مسموعة. ومع ظروف اجرائها، ومسألة تحليلها، واستخراج المواد اللازمة للاستفادة منها.
والباحث يُقارب موضوعه باستخدام آليات المقاربة الاجتماعية الحديثة من إحصاءات وأرقام وأسماء وتواريخ مستوحاة من مكتسبات المناهج والمعايير الناظمة لإنتاج علم الاجتماع الحديث. ومن منظور تحليلي اجتماعي، انتربولوجي أحياناً، لا سيما حينما يحاول استيعاب حكايات الخوارق والخرافات والمعتقدات التي كان يتداولها سكان المنصورة حينذاك، في صلب منظومة التفسير الإناسي، كاعتقادهم بأن وجود طاقة صغيرة في سقوف البيوت، إنما هي لتسهيل مرور روح النائم التي تخرج ليلاً خلال النوم لتعود لحظة الاستيقاظ إلى جسده. وقد اتاحت له دراسة اسماء الأحياء الجديدة او المندثرة، والتنافس على الملكيات العقارية، وتحليل أسماء الأراضي وأصول العائلات، وتخطيط الطرق العامة، ان يبني الخطوط الفاصلة والدالة على انقسام عصبيات المجتمع المحلي بالتوازي مع انقسام المجتمع اللبناني. ولا سيما ان البيئة البقاعية كان يتنازعها عاملان هما الداخل السوري وجبل لبنان منذ أواخر العهد العثماني. بيد ان المنصورة حافظت رغم الملابسات السياسية واحتدامها، على تضامنها العضوي، واخترقت الحاجز الطائفي منذ الأربعينيات، بترتيب الزيجات المختلطة بين الطوائف المسيحية والإسلامية، ولو انها تمت خفية، وتحت جنح الليل، قبل ان يصدّعها السُعار الديني أثناء الحرب الأهلية.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى