السادات وعصره: الانقلاب من الداخل

 

كان غياب جمال عبدالناصر مفاجئًا وصاعقًا، لكنه لم يحل ـ رغم مشاعر الحزن التي غمرت المصريين ـ دون أن يبدأ الصراع على السلطة. من يخلفه في منصبه؟.. وكيف تُدار الدولة بعده؟ كان ذلك أمرًا طبيعيًا، فالسلطة ـ أي سلطة ـ لا تعرف الفراغ. طرحت أفكار كثيرة في لحظات الحزن مثل «القيادة الجماعية»، وضرورات التماسك والانتقال السلمي للسلطة، فالبلد لا يحتمل تنازعًا عليها في وقت حرب.

كانت تلك أفكار نبيلة في مقصدها ونواياها لم يُكتب لها أن تستقر على أرض، فالسلطة هي السلطة.

لخص مشهد واحد في جنازة عبد الناصر افتراق الطرق بين رجلين وتوجهين داخل بنية النظام، أولهما ـ نائب رئيس الجمهورية أنور السادات، وهو يتصور أن صعوده إلى منصب الرجل الأول محفوظ بالتراتبية والأقدمية، رغم أن دوره محدود وهامشي في صنع القرار.. وثانيهما ـ أمين عام الاتحاد الاشتراكي ورئيس الوزراء السابق علي صبري، وهو يتصور أن صعوده إلى نفس المنصب محفوظ بحجم نفوذه داخل المؤسستين السياسية والأمنية. في ذلك المشهد تخلف الرجلان عن المضي مع الشخصيات الدولية والعربية خلف الجثمان قبل أن تضطرها الجماهير الملتاعة على ترك الجنازة.

عاد السادات إلى مجلس قيادة الثورة بالقرب من كوبري الجلاء على كورنيش النيل مسنودًا على اثنين من مرافقيه بعد إصابته بحالة إغماء. أدخل على الفور إلى حجرة رجال المطافئ لتلقي الإسعافات الضرورية. بعده مباشرة جاء علي صبري بداعي الإرهاق الشديد وأدخل إلى الحجرة نفسها. كان عادل الأشوح، مدير مكتب أمين التنظيم الطليعي شعراوي جمعة، الذي يتولى في الوقت نفسه حقيبة الداخلية، المكلف بالإشراف على المكان واستقبال الشخصيات الدولية وكبار المسؤولين. حسب رواية للأشوح فإنه طلب من الدكتور حمدي السيد ـ نقيب الأطباء فيما بعد ـ الكشف عليهما للنظر فيما إذا كان هناك خطر على حياتهما يستوجب التصرف العاجل.

قال حمدي السيد: «مافيش حاجة.. مرض سياسي».

أثناء مغادرتهما المكان قال السادات عند الباب الخارجي: ـــــ «تعال يا علي أوصلك».

ـــــ «لا اتفضل أنت.. طريقي غير طريقك»، كان ذلك التعبير الذي أطلقه علي صبري، بقصد دلالاته السياسية أو بدون قصد، مثار تعليق كل الذين استمعوا إليه، أو وصل إلى علمهم.

لم يكن أنور السادات شخصية مجهولة، فسجله معروف والتحفظات عليه معلنة في أروقة التنظيم السياسي ودوائر الدولة، ومع ذلك مر بسهولة نسبية إلى مقعد الرجل الأول. باستثناء أصوات معدودة في التنظيم الطليعي، أو داخل الاتحاد الاشتراكي، لم تكن هناك ممانعة كبيرة في التقدم به رئيسًا لاستفتاء عام. تكفلت المجموعة المهيمنة على مقاليد الأمور داخل مؤسسات الدولة بالدعوة إلى انتخابه رئيسًا.

كانت المفارقة الكبرى أن السادات أودعها السجون بعد زهاء سبعة أشهر بتهمة التآمر عليه، فيما سميت بـ«ثورة التصحيح»، أو «انقلاب ١٥ مايو» بتوصيف آخر.

شملت قائمة المعتقلين نائب رئيس الجمهورية علي صبري، والقائد العام للقوات المسلحة الفريق أول محمد فوزي، ووزير الداخلية شعراوي جمعة، ورئيس المخابرات العامة أحمد كامل، ووزير الإعلام محمد فائق، ووزير رئاسة الجمهورية سامي شرف، وعدد كبير من قيادات التنظيم السياسي ومنظمة الشباب الاشتراكي. كما شملت ـ مع الذين صعدوا بالسادات إلى الرئاسة ـ فريد عبدالكريم أمين الاتحاد الاشتراكي في الجيزة، الذي اعترض وحده ـ تقريبًا ـ على اختياره. لم يكن اعتراض فريد عبدالكريم، مسألة تقدير سياسي لمدى صلاحية السادات لتولي المنصب الأرفع في البلاد. لا أحد تقريبًا كان مقتنعًا بمثل هذه الصلاحية.

انصب جوهر اعتراضه في مدى نزاهة الرئيس المرشح على خلفية استيلائه على قصر «الموجي» بالجيزة، وقد جرت مواجهة معلنة بين الرجلين.

إثر تلك المواجهة طلب عبدالناصر من نائبه إنهاء استيلائه على القصر والاعتكاف في قريته ميت أبو الكوم، لحين البت في مستقبله، غير أنه سمح له بالحضور إلى القاهرة لسبب أو لآخر والتقطت له صور مع الرئيس قبل رحيله بثلاثة أسابيع. لعبت المقادير لعبتها، ففي لحظة الرحيل كان هو ـ وحده ـ نائبًا للرئيس وفي وضع خلافة أفضل من غيره.

(1)

 

في مراجعات ما بعد هزيمة «يونيو»، التي سجلت في محاضر رسمية، إشارات لنوع الصدام المتوقع إذا ما اختفى فجأة الرئيس عبدالناصر.

في محضر (٣) أغسطس (١٩٦٧) لاجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي، وهو كاشف أكثر من غيره لحقائق القوة وطبائع الرجال، يستلفت الانتباه مواقف ثلاثة رجال قدر لهم أن تُطرح أسماؤهم لخلافة عبدالناصر بعد رحيله.

الأول ـ زكريا محيي الدين، نائب رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ووزير الداخلية الأسبق ومؤسس المخابرات العامة المصرية، الذي رشحه عبدالناصر لخلافته في خطاب التنحي.

كان الأكثر وضوحًا في طرح أفكاره.. فهو مع التحول إلى نظام سياسي مفتوح، وأن تكون الانتخابات غير موجهة.. وهو مع دور أكبر للقطاع الخاص في تحمل مسؤولية تشغيل العمالة ورفع ما تستشعره الرأسمالية الوطنية من عدم مساواة في الحقوق والواجبات. بتلخيص ما فإن مجمل رؤيته على يمين الخيارات الاجتماعية لعبدالناصر، لكن دون صدام كبير معها، كما تدعم توجهه الجديد لتأسيس نظام مفتوح.

في ذلك المحضر انتقد زكريا محيي الدين الجهاز الشعبي، الذي يقوده علي صبري في حضوره، حيث لم تحدث به تطورات تلاحق إنجازات الجهاز الحكومي، وجرت مناقشة مقتضبة بينهما لم تستبن فيها حدود الخلافات.

والثاني ـ علي صبري الرجل الذي أشرف على الخطة الخمسية الأولى بين عامي (١٩٦٢) و(١٩٦٥)، التي وصفها تقرير البنك الدولي بأنها تجربة تنمية يحتذى بها في العالم الثالث، حيث بلغ متوسط النمو (٧‪.٦٪) ووصلت عوائد التنمية إلى أوسع قاعدة من المواطنين. بالتكوين الفكري، فهو اشتراكي ومجمل آرائه تختلف مع زكريا محيي الدين. في مداخلاته اعتبر أن مشكلة الديمقراطية لا تنحصر في إجراءات الأمن القومي إذ لم تكن مانعًا في أي بلد من تحقيقها، وأنه يجب الحفاظ على ما تحقق من إنجازات.

والثالث ـ أنور السادات رئيس مجلس الأمة، الذي لم تسند إليه حتى ذلك الوقت أية مهام في الجهاز التنفيذي. لم تبد في مداخلاته أية انتقادات لنظام الحكم قبل (٥) يونيو لها صلة بقضية الديمقراطية، مانع في اجتماعات عديدة من أي إقدام على التغيير مؤيدًا على طول الخط عبدالناصر بغض النظر عن طبيعة نظامه، ولا أعرب عن أية توجهات اجتماعية تُعبر عن شخصية صاحبها.

تباينت وجهات نظر الرجال الثلاثة في ملف تجاوزات اللجنة العليا لتصفية الإقطاع وإجراءات الحراسات، عندما فتحه عبدالناصر.

محيي الدين ركز على ما سببته من ضرر بشيء من الوضوح، وصبري اعتبر «إن الخطأ الذي حدث في لجنة تصفية الإقطاع أنها لم تراع عند التطبيق في بعض الحالات ما قررناه من مبادئ وقواعد»، والسادات أعاد إنتاج النظرة الأخيرة نفسها مع تحوط وحذر: «لا يمكن أن نقول إن إجراءات الحراسات كانت خاطئة، وإنما الخطأ كان فقط في بعض حالات فردية وليس في كلها». لجأ إلى الصمت الكامل عندما انتقد علي صبري أداء مجلس الأمة، الذي يترأسه في ملف التجاوزات والحراسات «إذ كان من الممكن أن يكون أكثر فائدة».

عند الرحيل المفاجئ لعبدالناصر طُرحت أسماء الرجال الثلاثة في المجال العام. استبعد زكريا محيي الدين بأسرع وقت ممكن. كان تصدر اسمه لخبر نشرته صحيفة «الأهرام» عن إجراءات الجنازة، داعيًا إلى تحركات واتصالات وتوافقات بين جماعات متعارضة على إبعاد أعضاء مجلس قيادة الثورة السابق عن أي دور. حمل خبر «الأهرام»، الذي كتبه الأستاذ محمد حسنين هيكل، نوعًا من التزكية المبكرة. كان زكريا محيي الدين خياره الأول لخلافة عبدالناصر. بعد أن استبعد محيي الدين بقي الرجلان الآخران. في ظروف وتوازنات معقدة تقاسما السلطة، السادات رئيسًا وعلي صبري نائبًا. كان ذلك مشروع صدام محتم بالنظر إلى طبيعة الرجلين.

(2)

حانت لحظة الصدام وافتراق الطرق.

كانت اتفاقية الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا وليبيا في بني غازي يوم (١٧) إبريل (١٩٧١) سبب الصدام لا جوهره. نقل الصراع إلى مستوى إلى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، وخرجت أزمة السلطة إلى العلن. طُرحت أسئلة كثيرة بينها مدى صلاحيات الرئيس، وإلى أي حد يلتزم بالقيادة الجماعية، وموعد الحرب وجاهزية الاستعداد لها. تلاحقت مشاهد الأزمة. عُزل علي صبري من منصبه نائبًا للرئيس في الأول من مايو.

دبت خلافات بين المجموعة المهيمنة على الطريقة التي يتوجب عليهم التصرف بمقتضاها. استقر الرأي بعد وقت قصير على تقديم استقالة جماعية، أعلنت من الإذاعة يوم (١٣) مايو. كان ذلك خطأ هائلًا في إدارة الأزمة أفضى إلى اعتقالهم واتهامهم بالتآمر.

حسب جميع الشهادات المعلنة للذين اتهموا بالتآمر لإطاحة السادات، فإن خطأهم الأكبر هو أنهم لم يتآمروا. جرى وصفهم بـ«مجموعة علي صبري»، نائب رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، لكنهم لم يبدوا حماسًا للصعود بـ«الرجل القوي» إلى موقع رئيس الجمهورية بعد رحيل عبدالناصر، وفضّلوا بصورة أو أخرى «الرجل الضعيف ـ أنور السادات» بظن أنه يمكن التحكم فيه. هذه قصة معتادة في التاريخ المصري وأثمانها معروفة. في أحداث مايو اختلطت أوراق وتداخلت اعتبارات متناقضة. لم تكن هناك إدارة واحدة للأزمة، ولا كان هناك تجانس بين الذين ضمهم قفص واحد في المحاكمات التي جرت.

ما هو أكثر مأساوية أنه جرى ضربهم عن طريق معاونيهم وأوثق رجالهم. تولى ممدوح سالم أقرب رجال أمين عام التنظيم الطليعي ووزير الداخلية شعراوي جمعة، السيطرة على الملف الأمني دون أي مقاومة.

وتولى الفريق محمد صادق، رئيس هيئة الأركان حسم الموقف العسكري في مواجهة القائد العام، الفريق أول محمد فوزي بلا أي ممانعة. وبادر محمد عبدالسلام الزيات للسيطرة على وزارة الإعلام، بعد أن غادرها الوزير المستقيل محمد فائق، دون أن يكون معه أحد يسنده. وتقدم اللواء الليثي ناصف، قائد الحرس الجمهوري لاعتقال المجموعة القيادية كلها بمن فيهم سامي شرف، الذي كان يأخذ منه تعليماته حتى أيام قليلة مضت.

انهار كل شيء في لحظة واحدة. لماذا؟.. وكيف؟ السؤال يدخل في طبيعة النظام، الذي لم يستطع أن يصمد لأول عاصفة هبت عليه بعد رحيل مؤسسه.

(3)

كانت مقاليد السلطة استتبت لأنور السادات بعد إزاحة منافسيه عليها والزج بهم في السجون عندما داهمت نيران الفتنة الطائفية مصر يوم (٦) نوفمبر (١٩٧٢) في مركز «الخانكة». لماذا هبت الفتنة في ذلك الوقت بعد عقود طويلة خمدت فيها نيرانها؟ ينسب لتجربة عبدالناصر أنها ضربت الأساس الاجتماعي للنخبة القبطية وجردتها من أراضٍ وممتلكات ومصانع بالقوانين الاشتراكية. هذا اتهام شائع وله صدى، رغم أن القوانين نفسها طبقت بلا تمييز واستفادت من ثمارها الطبقة الوسطى والفئات المحرومة بغض النظر عن الانتماء الديني. بقدر عمق التحولات وما انطوت عليه من فلسفة اجتماعية تعمل بقدر ما تستطيع على إشاعة العدالة والمساواة وإعلاء قيمة المواطنة تأكد التماسك الوطني وخفتت النزعات الطائفية إلى حدود كبيرة. ما الذي استدعى الفتنة من مكامنها، ولم يكن النظام الجديد قد كشف عن توجهاته في النظر إلى حقوق المواطنة والبلد يتأهب لخوض حرب تقرر مصيره؟

تبدى احتمال أن يكون هناك من طلب إرباك الوضع الداخلي، أو تفجيره بالفتن، قبل أية مواجهات عسكرية منتظرة، لكنه لم يثبت ولا قام عليه دليل. أرجح الاحتمالات هو الجو العام نفسه. لم يكن الرئيس الجديد مقنعًا لقطاعات كبيرة من المواطنين بقدرته على ملء فراغ سلفه الراحل، وريح المعارضة تهب عليه من داخل نظامه وخارجه على السواء. بدأ التفكير مبكرًا، وهذا ثابت ومؤكد بشهادات واعترافات، في استخدام الورقة الدينية لضرب التيارين الناصري والماركسي. جرت اتصالات لعودة أقطاب جماعة «الإخوان المسلمين» من الخارج والتصالح معها. برز في الحلقة المقربة محمد عثمان إسماعيل محافظ أسيوط الأسبق صاحب العبارة الشهيرة: «أعداء النظام ثلاثة، الشيوعيون والناصريون والأقباط». وكان قد شرع في تأسيس «الجماعة الإسلامية» بالجامعات المصرية لمواجهة الطلاب اليساريين الذين يعارضون السادات.

كانت اللعبة في بدايتها لم تأخذ بعد كامل أبعادها مثل إعلان السادات أنه «رئيس مسلم لدولة مسلمة»، لكنها وفرت بيئة سلبية احتضنت الفتنة وزكت نيرانها، التي داهمت المصريين على غير توقع أو انتظار.

شكلت لجنة برلمانية لتقصي الحقائق ترأسها الفقيه القانوني الدكتور جمال العطيفي، انتهت بعد عشرين يومًا إلى استخلاصات وتوصيات لاقت قبولًا عامًا، لكنها أودعت الأدراج إلى الأبد.

تمددت الفتن واشتعلت النيران في سمالوط وأبو زعبل (١٩٧٨) والزاوية الحمراء (١٩٨١) وشبرا والزيتون وإمبابة (١٩٩١) والكشح (٢٠٠٠)، كما مناطق أخرى على الخريطة ربما لم يسمع باسمها أحد من قبل، حتى وصلنا في عام (2013) إلى موجة عاتية من حرق الكنائس ارتكبتها جماعة «الإخوان المسلمين» لإضفاء طابع ديني على صراع سياسي بعد إطاحتها من الحكم. بين عامي (٢٠١٦) و(2018) جرت فتن جديدة في محافظات المنيا وبني سويف وأسوان وامتد الخيط مزعجا إلى المستقبل.

(4)

كان فتح «ملف عبدالناصر» عقب حرب أكتوبر (1973) تمهيدًا لسياسات تمددت من الانفتاح الاقتصادي بالطريقة التي جرت بها إلى الصلح مع إسرائيل بالتنازلات التي انطوى عليها. أهدرت سياسات «يوليو» الاجتماعية، وبدا الانفتاح «سداحا مداحا» بتعبير الأستاذ أحمد بهاء الدين، كما أهدرت النتائج العسكرية لحرب أكتوبر بمقولتي: «٧٠٪ من الصراع مع إسرائيل نفسي».. و «٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة».

«شاهدت زيارة السادات للكنيست بالكويت.. بعد دقائق اختفت النساء. كن يبكين بالحمامات وغرف النوم». تلخص تلك العبارة للأستاذ أحمد بهاء الدين شيئًا من الجو العام في العالم العربي لحظة زيارة القدس.

عالم بأكمله انهار تحت ومضات الكاميرات ومرحلة كاملة من التاريخ أغلقت بالدموع. في أجواء الصدام اختبرت معادن رجال وصلابة مواقف. تصدرت مشاهد رفض اتفاقيتي «كامب ديفيد» تيارات وأحزاب يصعب أن تلتقي. وتشاركت في رفض تطبيع مع إسرائيل أجيال وأحزاب ونقابات وجمعيات أهلية، وكل ما يتحرك بالحيوية في البلد. كان من أبرز الوجوه التي تصدت لـ«كامب ديفيد» نقيب المحامين عبدالعزيز الشوربجي، إن لم يكن أبرزها على الإطلاق. بخلفيته السياسية فهو «وفدي» يجافي تجربة جمال عبدالناصر في الحكم غير أنه في لحظة «كامب ديفيد» وما تمثله من خطر على الوطنية المصرية قال بما هو نصه في محضر التحقيقات معه أمام النيابة العامة: «والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت لكنت من رجاله وحاربت خلفه». فقيه قانوني آخر من أفضل من مروا على مصر من محامين كبار هو الدكتور محمد عصفور، وجد نفسه ـ بقوة الوطنية المصرية رغم الخلاف المعلن مع عبدالناصر ـ يقول في حوار صحفي منشور: «أمريكا استغلت السادات لإجهاض مشروع ناصر». بمضي الوقت استقرت حقائق المشروع المضاد. تفكيك الاقتصاد الوطني باسم الانفتاح الاقتصادي أسس لطبقة جديدة وظيفتها مساندة نوع معين من السلام. وتفكيك نظرية الأمن القومي باسم السلام مع إسرائيل أسس لتراجع المكانة المصرية في محيطها وقارتها وعالمها الثالث.

بتصدع المشروع الوطني لم يكن ممكنًا بناء اقتصاد قوي، رغم وعود الرخاء، ولا تأسيس ديمقراطية حقيقية تقوم على التعددية والتنافس الحزبي وفق أصول مدنية الدولة والاحتكام إلى القواعد الحديثة. لم يكن السادات هو الموضوع بقدر ما كان مشروعه المضاد.

هناك رواية شائعة رددها أحمد حمروش وآخرون، أن عبدالناصر قرر عزل السادات من منصب نائب رئيس الجمهورية وتعيين عبداللطيف البغدادي محله، لكنها غير مؤكدة ولا أقيم عليها دليل. إذا كان قد قدر لهذه الرواية الافتراضية أن تحدث، فإن سيناريوهات غروب «يوليو» قد تختلف، دون أن يكون هناك أمل كبير في استطراد مشروعها وتجديد أفكارها. البغدادي نفسه هاجم عبدالناصر في شهادات منشورة، ولم يكن هو الرجل الذي يمكن أن يجدد الثورة ويضخ دماء جديدة في شرعيتها. لم تكن لدى عبدالناصر نفسه ثقة كبيرة فيما قد يحدث بعده.

في رواية مستلفتة لرجل التصنيع الدكتور عزيز صدقي بتاريخ (٤) يوليو (٢٠٠٥) فإن عبدالناصر قال له عام (١٩٦٨): «إحنا مش هنعيش كتير.. واللي جاي بعدنا معرفش هيعمل إيه.. واللي أنت بتعمله مش هيقدروا يهدوه». كانت تلك شهادة إضافية من عبد الناصر نفسه على أزمة نظام «يوليو»، وعدم قدرته على حمل مشروعه إلى المستقبل. هكذا خذل النظام مشروعه وحرمه من فرص تجديده بالمراجعة والإضافة حسب احتياجات العصور المتغيرة.

صحيفة رأي اليوم الألكترونية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى