تحرير إدلب.. انتصار للأسد أم هزيمة لإردوغان؟

 

بعد خطاب الرئيس السوري بشار الأسد، بات واضحاً أن دمشق مصمّمة على حسم مشكلة إدلب، مهما كلّفها ذلك، وهو ما يفسر حديث الأسد عن “الفقاعات الصوتية الآتية من الشمال”، كما يفسّر فشل مساعي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في إقناع أميركا وحلف الأطلسي بالوقوف إلى جانبه ضد روسيا وسوريا وإيران، بعد “الموقف الصلب” للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في هذا الموضوع.

هذا الأمر سوف ينعكس، عاجلاً أم آجلاً، على مجمل رهانات إردوغان في سوريا، بما في ذلك مصير التواجد العسكري التركي شرق الفرات وغربه، الذي كان البعض يرى فيه جزءاً من الجغرافيا التركية.

يبدأ الحديث هنا، ولو مبكراً، عن الانعكاس المحتمل لتحرير إدلب على مجمل سياسات الرئيس إردوغان الإقليمية والدولية، لأنَّ ذلك سيقرّر مصير مستقبله الشّخصيّ في السّلطة، بعد أن “فقدت مقولاته العقائدية رونقها” في سوريا والمنطقة.

لقد راهن إردوغان منذ بداية الأزمة على إسقاط الرئيس الأسد، وأدى دوراً أساسياً في مجمل التطورات في سوريا، لما لها من مكانة خاصَّة ومميزة في مجمل حسابات المنطقة، وخصوصاً أزمة الإسلام السياسيّ، الذي قال عنه الرئيس التركي السابق عبدالله جول “إنه فشل وسقط في العالم أجمع”، وهو ما يفسّر سقوط مشروع “الربيع العربي”، بصمود سوريا، والإطاحة بحكم الإخوان في مصر في تموز/ يوليو 2013، ليجد إردوغان نفسه في عزلة تامة على الساحة السورية، ومعه أمير قطر؛ الحليف الاستراتيجي لواشنطن.

هذه العزلة “القاتلة” إضافة إلى تحالف السعودية والإمارات مع مصر، دفعت الرئيسَ إردوغان إلى الاعتذار من الرئيس بوتين في حزيران/ يونيو 2016 عن إسقاط الطائرة الروسية في سوريا في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015.

وتحوَّلت موسكو ولاحقاً طهران بعد هذا الاعتذار، إلى “حلفاء” أنقرة في سوريا، بعد أن كانتا من “ألدّ أعداء” إردوغان وإعلامه، ليس سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً فحسب، بل تاريخياً ودينياً وطائفياً أيضاً، لأنهما دعمتا “عدوه اللدود” بشار الأسد.

وكان هذا الدعم كافياً لإفشال مشروع الرئيس إردوغان ذي العناصر المختلفة في سوريا، بعد أن راهن على سقوط الأسد خلال أسابيع، على إثر انشقاق رئيس الوزراء السوري السابق رياض حجاب وهروبه إلى الأردن في 8 آب/ أغسطس 2012، مقابل 30 مليون دولار.

وقال إردوغان في 5 أيلول/ سبتمبر 2012 إنه “إن شاء الله، سنذهب إلى دمشق في أقرب فرصة، وسنحتضن إخوتنا هناك بكل محبة. هذا اليوم ليس بعيداً. وإن شاء الله، سنقرأ الفاتحة أمام قبر صلاح الدين الأيوبي، ونصلّي في الجامع الأموي، وسندعو بكلّ حرية من أجل إخوتنا أمام ضريح بلال الحبشي وابن عربي والتكيّة السليمانية ومحطة الحجاز”.

وكانت “الصّلاة في الأموي” الموضوع المشترك لهجمات المعارضة ضد الرئيس إردوغان الذي لم يستطع الصلاة في الجامع الأموي، وتجوَّل فيه الرئيس بوتين خلال زيارته الأخيرة لدمشق في 7 كانون الثاني/ يناير الماضي، قبل يوم من لقائه إردوغان في أنقرة، ليرسل من هناك رسائل ذكية ترجمها على الأرض في التحرك العسكريّ الأخير للجيش السوري.

دفع ذلك المعارضة التركية إلى شنّ هجوم عنيف، و”بشيء من الاستهزاء”، على الرئيس إردوغان، الَّذي سبق له أن قال إنَّه “لن يصالح إسرائيل إلا بعد رفع الحصار عن غزة”، إلا أنه تجاهل هذا الموضوع بعد أن اعتذر نتنياهو منه هاتفياً في حزيران/ يونيو 2015، ثم تبرّعت تل أبيب بمبلغ 20 مليون دولار لضحايا سفينة مرمرة، مقابل إسقاط كلّ الدعاوى المرفوعة على المسؤولين الإسرائيليين في المحاكم التركية والدولية.

وفي ظلّ استمرار هجوم المعارضة العنيف عليه في موضوع إدلب، مع مخاوف الشارع التركيّ من احتمالات مجيء عشرات الآلاف من إرهابيي “جبهة النصرة” من السوريين والأجانب إلى تركيا، بدأ البعض يتحدث عن سيناريوهات غريبة، ومنها اتفاق روسي- تركي مشترك، لوضع هؤلاء في مخيّمات خاصّة، إلى أن تتمّ معالجة أوضاعهم مع الدولة السورية بعد الحلّ النهائي أو مع الدول التي جاء منها الإرهابيون.

وهنا يبدأ الرهان على المستقبل السياسي لإردوغان، باعتبار أنَّ البعض يرى في انتصار الأسد في إدلب هزيمة لإردوغان فيها، وفي سوريا عموماً، بعد أن “اعتلى قمة الشجرة، وليس هناك من يساعده للنزول عنها”.

دفع ذلك البعض إلى الحديث عن العديد من السيناريوهات التي ينبغي لإردوغان أن يستعدّ لها، مع استمرار الفتور والتوتر الذي يخيّم على علاقات أنقرة مع معظم العواصم العالمية، بسبب مقولاته وسلوكه القومي الديني والتاريخي الذي يزعج الكثيرين في الغرب.

وفي الوقت الّذي تسجّل استطلاعات الرأي المستقلّة تراجعاً كبيراً في شعبية الرئيس إردوغان وحزب “العدالة والتنمية” الحاكم، ليخسرا معاً في أول انتخابات يتوقّعها البعض قريباً بسبب سلبيات الوضع الداخلي والخارجي، تتوقّع الاستطلاعات المذكورة لرئيس بلدية اسطنبول، أكرم إمام أوغلو، أن يحصل على 54.8% من الأصوات، مقابل 44.8% للرئيس إردوغان في حال إجراء الانتخابات الآن. كما تراجعت شعبية “العدالة والتنمية” من 42.5% في انتخابات حزيران/يونيو 2018 إلى 32.4% الآن.

هذه الأرقام تدفع إردوغان إلى وضع العديد من الخطط لمنع المعارضة من تحقيق أهدافها، وأهمها التخلص منها بأسرع ما يمكن. فالسيناريوهات تتوقّع للرئيس إردوغان أن يستنفر كلّ إمكانياته لشقّ صفوف المعارضة على جبهتين، فإما أن يقنع الحزب الجيد المنشقّ أساساً من حزب الحركة القومية، مهما كان الثمن، بالابتعاد عن تحالف الأمة الذي يضمه وحزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديموقراطي وباقي قوى المعارضة، وإما يدخل في مسار آخر يهدف إلى المصالحة مع حزب الشعوب الديموقراطي (الكردي)، عبر إغراءات مختلفة، أهمها إخلاء سبيل قيادات الحزب المعتقلة، والأهم إخلاء سبيل زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان، الموجود في السجن منذ شباط/فبراير 1999.

ويرى البعض في مثل هذا الاحتمال محاولة من إردوغان للالتفاف على مساعي دمشق للمصالحة مع وحدات حماية الشعب الكردية، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، وهو ما سيحظى برضا وتأييدٍ ودعمٍ من واشنطن، الحليف الاستراتيجي لتركيا، التي سوف تبقى في وضعها الحالي، مهما قالت وفعلت، وستستمرّ أزماتها الماليّة والاقتصاديّة الصعبة جداً.

لقد رفضت المؤسَّسات المالية العالمية والأميركية والأوروبية تقديم أيّ قروض لتركيا، وما زالت ترفض ذلك، بحجة النظام السياسي غير الديموقراطي وانعدام استقلالية القضاء، فيما يسيطر الرأسمال الأجنبي على نحو 60% من تعاملات بورصة اسطنبول، و54% من قطاع المصارف، ومعها حوالى 20 ألفاً من الشركات الأجنبية العاملة في الأسواق التركية، وبمئات المليارات من الدولارات، ومعظمها من الدول الغربية العدوة لروسيا وإيران، التي لا تستطيع أن تساعد تركيا في الخروج من أزمتها، بعد أن زادت ديونها الخارجية على 460 مليار دولار.

وستزيد كلّ هذه المعطيات الطين بلّة بالنسبة إلى مجمل حسابات الرئيس إردوغان الذي يواجه الكثير من المشاكل الداخلية، على الرغم من سيطرته المطلقة على جميع مؤسَّسات الدولة ومرافقها، وأهمها الجيش والمخابرات والأمن والقضاء المدعوم من 95% من الإعلام الخاصّ والحكومي الموالي له، وهو ما سيكون كافياً لمواجهة أيّ تحركات من المعارضة، بما فيها حزب المستقبل الذي يتزعَّمه رئيس الوزراء السابق أحمد داوود أوغلو، والحزب الذي سيعلن عنه وزير الاقتصاد السابق علي باباجان بداية الشهر القادم. وقد أعلن الرئيس السابق عبدالله جول الثلاثاء تأييده له علناً.

وتتوقّع استطلاعات الرأي أن يحصل الحزبان على حوالى 10-12% من الأصوات في حال إجراء الانتخابات الآن، وهو ما سيشكّل خطراً جدياً على حسابات إردوغان، الَّذي قد يواجه مشاكل أكثر صعوبة في حال التزم داوود أوغلو وباباجان بوعودهما للكشف عن أسرار إردوغان الداخلية والخارجية، وأهمها سياساته في سوريا وليبيا والمنطقة عموماً.

وسيحرج ذلك الرئيس إردوغان بشكل جدّي، ما دام “الشاهدان من أهل البيت”، وكانا معه منذ استلام “العدالة والتنمية” السلطة في نهاية العام 2002. وسيدفع مثل هذا الاحتمال إردوغان إلى استخدام كلّ ما أوتي من قوة لسدّ الطريق على داوود أوغلو وباباجان، وهو ما قد يكون صعباً إذا دخلت العواصم الغربية على الخط للتخلّص من إردوغان.

وستضع كلّ هذه الحسابات المحتملة تركيا في مهبّ الرياح التي ستهبّ من إدلب، ما دام الرئيس إردوغان لا ولن يتقبل، وبأيّ شكل كان، هزيمته أمام الرئيس الأسد، ويبدو أن الأخير لا ولن يقبل بأيِّ مصالحة معه بعد الآن.

ويرى البعض في سقوط إدلب بداية نهاية الرئيس إردوغان، ليس في سوريا فحسب، بل في الداخل التركيّ أيضاً، إذ يرى بعض أوساط المعارضة في انتصار الأسد في إدلب انتصاراً لنضاله منذ 17 عاماً للتخلّص من إردوغان، الذي قد يقلب الطاولة على الجميع في اللحظة التي يشعر فيها بأنه لم يعد سلطاناً أو خليفةً، بل وحتى رئيساً لتركيا.

وهنا، لا يخفي البعض قلقهم من احتمالات الحرب مباشرةً مع سوريا، وإن كانت روسيا، بل وإيران وراءها، ما دام همّ إردوغان هو البقاء في السلطة، مهما كان ثمن ذلك، بحسب رأي المعارضة الّتي تذكّر بحرب صدام حسين ضدّ إيران.

الميادين نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى