«تحرير سوريا» تصول على حساب «النصرة»: الجولاني بلا غطاء إقليمي؟

لم تضيّع «جبهة تحرير سوريا» الوقت. أيام قليلةٌ بعد الإعلان عن تشكيلها كانت كافيةً لانطلاق جولة جديدة من جولات صراع «الإخوة الأعداء» بين الكيان الجديد وبين «جبهة فتح الشام/ النصرة». سيناريو انطلاق الجولة الجديدة من المعارك لم ينطوِ في الشكل العام على تفاصيل تشذّ عن المعهود في حالاتٍ كهذه: اتهامات واتهامات مضادّة، بياناتُ تخوينٍ وفتاوى «شرعيّة» حول «البغي» ووجوب القتال لـ«دفع الصّائل». دور رأس الحربة في وجه «النصرة» هذه المرّة موكلٌ لـ«حركة نور الدين زنكي» حتى الآن، وبعونٍ أساسي من حلفائها الجدد في «حركة أحرار الشام الإسلاميّة».

في الجوهر، ثمّة تفاصيل كثيرة تستدعي الوقوف عندها في أحداث الجولة الرّاهنة، وعلى رأسها التحالف الجديد بين «الزنكي» و«الأحرار» وخلفيّات تشكّله وأبعاد الخطوة وعقابيلها المحتملة. كانت «حركة نور الدين زنكي» حتى وقت قريب تحتفظ بعلاقات متوازنة مع «النصرة»، مضبوطةٍ وفق بوصلة الداعم القطري. ثمة سبب جوهري آخر دفع «النصرة» للحفاظ على العلاقات الجيدة مع «الزنكي» هو انضمام الأخيرة إلى لوائح الدعم الأميركية. وعلى امتداد ثلاثة أعوام نشط التعاون في مجال التسلّح بين «النصرة» و«الزنكي»، لتلعب الأخيرة دوراً أساسياً في نقل السلاح الأميركي إلى جماعة أبو محمد الجولاني عبر صفقات بيع متكرّرة. في مطلع العام 2017 حققت العلاقة بين الطرفين قفزةً إلى الأمام مع الإعلان عن تشكيل «هيئة تحرير الشام» بالشّراكة بينهما وبين مجموعات أخرى على رأسها «حركة أحرار الشام الإسلاميّة».

لكنّ الخلاف الذي تجدّد بين «الأحرار» و«النصرة» في تموز من العام نفسه دفع «الزنكي» إلى الانشقاق عن «الهيئة»، وفتح أبواب التنسيق بينها وبين «الأحرار» خلف الكواليس. بدورها، خرجت «حركة أحرار الشام» من آخر معاركها مع «النصرة» مستنزفةً وخاسرةً لكثير من مناطق نفوذها و«ماء وجهها». وثمة مؤشرات كثيرة تدلّل على أن تشكيل «جبهة تحرير سوريا» إنّما جاء في الدرجة الأولى بهدف وضع حدّ لهيمنة «النصرة» و«تنمّرها».

وإذا كان دافع «الأحرار» الأوّل هو الثأر من الجولاني وجماعته، فإنّ الأمر مرتبط في حسابات «الزنكي» باقتناص الفرصة لفرض نفسها رقماً صعباً جديداً في خارطة المجموعات المسلّحة. وعُرفت «الزنكي» منذ نشأتها (عام 2011) بالبراعة في التلوّن وتغيير الولاءات تبعاً للمنافع المتوخّاة، وسبق لها أن تلقّت الدعم من كلّ من قطر والسعوديّة وتركيا والولايات المتحدة وسلفيي الكويت! ويبدو مسلّماً به أنّ تشكيل «جبهة تحرير سوريا»، وانخراطها في المعارك سريعاً ضدّ «النصرة» لم يكن له أن يُبصر النور من دون ضوء أخضر إقليمي.

وعلاوة على «سلطة التمويل» يلعب الثقل «الإخواني» داخل كلّ من «الزنكي» و«الأحرار» دوراً أساسيّاً في التزام الطرفين تنسيق تحركاتهما الكبرى مع اللاعبين التركي والقطري، لكنّ الأخيرَين هما في الوقت نفسه ظهيران إقليميان أساسيّان لـ«النصرة»! ولتفكيك هذه المعادلة ينبغي العودة إلى تطورات العلاقات بين «النصرة» وأنقرة، واستقراء المخاوف التركيّة من خروج هذه العلاقة عن السيطرة، لا سيّما وأنّ عناصر الجيش التركي باتوا حاضرين في «دائرة الخطر» بفعل انتشار «نقاط المراقبة» التركيّة في مناطق نفوذ «النصرة».

وكانت أنقرة قد أفلحت في تعبيد طريق جنودها بتفاهماتٍ عقدتها أجهزة استخباراتها مع الجولاني الذي ضحّى بكل أوراقه «القاعديّة» كرمى لعيني أنقرة، وانقلب على التنظيم الأم في سبيل تفاهماته معها. ويبدو أنّ المعطى الإقليمي اليوم بات يحتّم على اللاعب التركي العمل على تقويض سلطة الجولاني تدريجيّاً، بالإفادة من براعة الأخيرة في استعداء معظم المجموعات المسلّحة، بما فيها «القاعدة» والكيانات المرتبطة بها.

ولا يبدو أنّ دحر «النصرة» عسكريّاً هو الهدف الوحيد لـ«تحرير سوريا». وتشير معطيات عدّة إلى أنّ حلّ «حكومة الإنقاذ» المحسوبة على «النصرة» في الدرجة الأولى، والتي تتحكم بمعظم مفاصل «العمل الإداري» في إدلب سيكون هدفاً تالياً، في خطوةٍ تمهّد لـ«إنهاء سيطرة النصرة على إدلب إلى الأبد» وفقاً لما أكّدته مصادر معارضة مقيمة في إدلب لـ«الأخبار». وحتى الآن، تبدو كفة «تحرير سوريا» هي الأرجح في المعارك الدائرة بينها وبين «النصرة»، لا سيّما وأن «الزنكي» تحظى بثقل خاصّ في ريف حلب الغربي، فيما تحتفظ «أحرار الشام» بحضور مؤثّر في أجزاء من ريف إدلب.

واندلعت أمس اشتباكات عنيفة بين «تحرير سوريا» وبين «النصرة» في كلّ من أريحا، وجبل الأربعين، ووادي الضّيف، ومعرّة النعمان (جميعها في محافظة إدلب)، إضافة إلى أورم وعويجل وتقاد ومحيط الفوج 111 (وجميعها في محافظة حلب). وأسفرت المعارك حتى مساء أمس عن انسحاب «النصرة» من كلّ من معرّة النعمان، ووادي الضيف، وأريحا، وترملا، فيما شهدت بلدة كفر روما اتفاقاً بين «الأحرار» و«النصرة» لتحييدها عن المعارك وانسحاب الطرفين منها لمصلحة «المجلس العسكري» في البلدة.

علمت «الأخبار» أنّ «جبهة النصرة» قد بدأت منذ مساء أمس التجهيز لجولة جديدة من المعارك أملاً في تعويض الخسائر التي منيت بها. وأكد مصدر «جهادي» (من خارج «النصرة») لـ«الأخبار» أنّ «المسؤولين الشرعيين في جبهة الجولاني قد باشروا حملة اتصالات مكثّفة، في سعي إلى الحصول على دعم من عدد من المجموعات الجهادية في إدلب، وعلى رأسها الحزب الإسلامي التركتساني». وقال المصدر لـ«الأخبار» إنّ «شرعيي النصرة وعلى رأسهم عبد الرحيم عطّون يعملون على إقناع الإخوة المجاهدين بأنّ النصرة تخوض معركة القصاص من قتلة الشيخ أبو أيمن المصري، ما يُحتّم على كل المجاهدين الوقوف إلى جانبها». وكان مسلحون تابعون لـ«حركة نور الدين زنكي» قد اغتالوا قبل أيام المصري قرب بلدة عنجارة (ريف حلب الغربي). ويُعتبر المصري أحد القادة «الجهاديين» البارزين، واسمه ابراهيم صالح البنّا، ويوصف بأنّه «مؤسس جهاز مخابرات تنظيم القاعدة». وسرت شائعات في العام 2011 عن مقتل المصري في اليمن، قبل أن يتبيّن لاحقاً أنّه نجا من الغارة التي اتسهفته وقتها، وانتقل لاحقاً إلى سوريا.

صحيفة الاخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى