لا يزال الطريق طويلاً

أحداث جسام عرفتها الأزمة السوريّة العام 2015. «سقوط» إدلب في آذار بيد «جيش الفتح» الذي تهيمن عليه «جبهة النصرة»، ثمّ تَدمُر بيد «داعش» في آيّار (تزامناً مع الرمادي في الأنبار بالعراق) وتمدّدها حتّى مشارف حمص والقلمون. وكان التدخّل الروسيّ العسكريّ المباشر في أيلول ثمّ «لقاء فيينّا» ومقرراته وقرار مجلس الأمن الأخير.

هذا كلّه لا يُنبئ بالتفاؤل بأنّ الصراع في سوريا وعليها سينتهي قريباً، خاصّة أنّ الصراعات الأخرى ذات العلاقة به لا تجد أفقاً واضحاً لها في العراق واليمن وليبيا؛ بل إنّ الدول العربيّة الأخرى التي شهدت تحوّلات أقلّ دمويّة تعيش اليوم أياماً صعبة ومفصليّة.

بالتالي، تستحقّ سنة 2015 منّا جميعاً وقفة حول التحديات التي أطلقتها انتفاضات «الربيع العربيّ»، ومراجعة جريئة للمواقف والغايات، أو على الأقلّ محاولة الإجابة على تساؤلات جوهريّة مطروحة اليوم بقوّة وحاسمة بالنسبة لملامح المستقبل.

هل انتهى عصر «سايكس ـ بيكو»؟

المعنيّ بهذا التساؤل هو دول المشرق العربي أكثر من غيرها، سوريا والعراق أساساً، وترسّخ دولة «داعش» بقوّة السلاح والعقيدة، وصعود المشروع القوميّ الكرديّ. والمعنيّ ضمناً أيضاً هو طموحات النفوذ لدولٍ صاعدة مثل إيران وتركيا وبعض دول الخليج.

ضمن هذا الإطار، يبدو للعيان أنّ حدود اتفاقية «سايكس – بيكو» ليست حقّاً حدود الدول الحاليّة، وأنّ هذه الأخيرة قامت نتيجة آلام عاناها الأهالي في مراحلٍ لاحقة، وأنّ دولة مشروع «سايكس – بيكو» الأكثر غرابةً عن المنطقة قد أضحت اليوم أكثرها رسوخاً، وهي إسرائيل. كما أنّ لبنان المليء بالتناقضات لم يتفجّر بفضل توافق دوليّ برغم تعطّل الدولة فيه بانتظار نتائج التحوّلات الإقليميّة. كذلك قد يؤدّي انفراط حدود المشرق القائمة حاليّاً إلى انفراط حدودٍ أخرى في الخليج قد تصل لإيران وتركيا. هذا في حين أنّ عمر هذه الحدود يشابه عمر كثيرٍ من الدول الأوروبية، والوطنيّة التي نشأت ضمنها ليست أكثر هشاشةً من غيرها في العالم، حتّى في أوروبا.

بالتالي لا يبدو صعود النقاش حول «سايكس – بيكو» سوى بروز للمخاوف ضمن الفوضى القائمة، وعجز عن تصوّر تطوّر آليّات دول مواطنة حديثة متعدّدة الهويّات، تشترك فيها جزئيّاً مع دولٍ مجاورة، وآليّات تعامل بين المناطق في كلّ دولة تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيّات المحليّة. وقد لا يؤدّي هذا العجز إلى تغيير الحدود، وإنّما إلى تقسيم بعض الدول كما جرى في يوغوسلافيا السابقة. لكن حتّى لو تجسّد هذا التقسيم في الواقع في مراحل الفوضى والصراع، يبقى السؤال عمّا إذا كانت أيّ من هذه الدول الجزئيّة قابلة للاستدامة في زمن السلم؟

هل الإسلام السياسيّ هو مستقبل المنطقة؟

لقد شهد العام 2015 توسّعاً ملحوظاً لـ «الدولة الإسلاميّة» المزعومة في سوريا والعراق، في حين يمثّل مشروعها أكثر تعابير الإسلام السياسيّ تطرّفاً. هذا المشروع لا يندرج ضمن صراعٍ للحضارات كما زعم هانتيغتون، وإنّما في سياق صراعٍ ضمن إطار الحضارة الإسلاميّة. إنّه يأتي في سياق فشل، بل إفشال، مشروع «العروبة»، كحاملٍ لهويّة تحتضن وتجمع الإرث الإسلاميّ والمسيحيّ المتنوّع للمشرق، وفي سياق صعود هيمنة المعادلة الفكريّة للخليج على تلك التي للدول العربيّة المتوسطيّة، وكردٍّ على انهيار المشروع الفارسيّ الحداثيّ وصعود ولاية الفقيه «الشيعيّة»، وزعزعة أسس مشروع دولة مصطفى كمال العلمانيّة «السنيّة». وليس صعود الفكر الدينيّ على صعيد الهويّة حِكراً على المنطقة، إذ تعيشه حتّى الأمم التي فصلت منذ القرن التاسع عشر الدين عن الدولة.

ولصعود الإسلام السياسيّ الكبير أسباب اجتماعيّة تتمثّل في استكمال هجرة الريف إلى المدينة وتهميش القادمين الجدد إلى المدن ضمن عولمة ضعفت فيها قدرة مؤسسة الدولة على تأمين المدخل الرئيس إلى المواطنة، أي الشغل والحياة الكريمين. هؤلاء القادمون الجدد لو أتوا في عصر الصناعة، لانخرطوا في نقابات وحركات سياسيّة تحمل أفكار عدالة اجتماعيّة ويساريّة. هذا الواقع الاجتماعيّ وحجمه الديموغرافيّ الكبير ساهما كثيراً في ترسيخ قناعة لدى دول كبرى عليها قوامها مسايرة الإسلام السياسيّ الذي سيشكّل مستقبل المنطقة، خاصّة أنّ دولاً ثريّة تدعمه لغاياتٍ سياسيّة وليست دينيّة حقاً، في حين تخلّت عن دعم الحركات التي تشبه أسسها الفكريّة الليبرالية تلك المتواجدة مثلاً في أوروبا.

تُمكن قراءة بعض تحوّلات «الربيع العربيّ» عبر هذه المرآة. فالتحوّل السلس نوعاً ما في تونس يعود إلى تواجد نقابة عمّاليّة واسعة النفوذ ومنظّمات مجتمع مدنيّ ناشطة أطّرت حوارات وتفاعلات معقولة بين القوى الاجتماعيّة بما فيها الإسلام السياسيّ، تأسّست عليها الممارسات الديموقراطيّة. ذلك على عكس مصر، حيث انفجر الصراع بين المؤسسة العسكريّة والإسلام السياسيّ بالضبط لغياب مؤسسات اجتماعيّة مستقلّة وازنة. في حين يستمدّ الإسلام السياسيّ قوّة من قدراته على التنظيم الاجتماعيّ في ظلّ العولمة المهمِّشة، خاصّة عبر المنظّمات الخيريّة.

مع تعدّد التجارب والإرهاصات، لا ترتبط الإجابة على التساؤل حول مستقبل الإسلام السياسيّ بمدى تقبّل تنظيماته، حتّى تلك الأكثر اعتدالاً، الانخراط في الديموقراطيّة، بل بقدر تقبّلها المساواة في المواطنة. فالجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة متعدّدة المذاهب والأقوام، ولا معنى لمشروعٍ شيعيّ مستدام بريادتها، خاصّة أنّ مواطنيها الشيعة باتوا يتطلّعون إلى مرجعيّة أخرى لمواطنيّتهم. كذلك يواجه مشروع الإسلام السياسيّ السنيّ العثمانيّ المُحدَث في تركيا مقاومة داخليّة كبيرة لا تُنذِر باستدامته في تركيا موحّدة مهما كانت نجاحاته الاقتصاديّة الحاليّة. كما أنّ هناك تعارضا جوهريّا بين طروحات بعض الفقهاء المرجعيين، مثل ابن تيميّة، وبين مبدأ المواطنة. إمّا هذا أو ذاك. كما أنّ الإسلام السياسيّ يبقى حاضناً موضوعيّاً للتطرّف طالما بقي يتأسّس على مذهبٍ واحدٍ من بين المذاهب، ولا يقطع مع فكر عصر الانحطاط والصراعات الإسلاميّة – الإسلاميّة، ولا يصطدم مع أسس الفكر المتطرّف سوى عبر الحديث عن ضرورة الاعتدال والقبول بالديموقراطيّة.

ثمّ هناك سرديّة قويّة حول مظلوميّة شيعيّة وأخرى سنيّة، وحول مظلوميّة إسلاميّة أمام اضطهادٍ غربيّ، نمت بفضل وسائل إعلام يستغلّها الإسلام السياسيّ ووجدت انتشاراً حتّى بين المثقفين المعدودين على التيار الليبرالي المنفتح، الذين باتوا يروّجون لمفاهيم الأغلبيّة والأقليّة كما لدى مستشرقي الحقبة الاستعماريّة، وينتصرون لمفهوم الثورة على أنّه استعادة لدور الأغلبيّة لا على أنّه مشروع مواطنة. إلاّ أنّه بات واضحاً أنّ هذه السرديّات تشكّل لدى القوى الصاعدة وسائل لنشر النفوذ وتغذية التناقضات، وصلت مع تمدّد «داعش» إلى منعطفها الكبير في المنطقة، وأنّ المظلوميّة لا تؤسّس للتقدّم، بل نقد الذات كما حدث انطلاقاً من الأزهر في عصر النهضة العربيّ – الإسلاميّ.
انطلاقاً من كلّ هذا وتأسيساً عليه، هل يمكن استقراء مستقبلٍ ما للمنطقة ولسوريا في نهاية 2015؟

يُمكن للتفاعلات التي أبرزتها أحداث 2015 المحليّة أن تستمرّ طويلاً كي تجد لها مستقرّاً. ليس أقلّ الأسباب هو أعداد الشباب الذين يشعرون أنّ لا مستقبل لهم وأنهم حملوا سلاحاً وعقائد للانخراط في حروب ضدّ الاستبداد أو لمظلوميّة ما، تغذّيها قوى إقليميّة ودوليّة لم تجد مصالحها سبلاً للتوازن، خاصّة بعدما أسّس الاتفاق الدوليّ حول مشروع إيران النوويّ مرحلة جديدة لها تداعيات كبيرة، بعض معالمها انتقال التنافس الحادّ من بين إسرائيل وإيران، إلى بين تركيا وروسيا.

لكنّ موجة الهجرة الكثيفة إلى أوروبا وانتقال الإرهاب إليها في 2015 قد يدفعان إلى تسريع البحث عن حلول لصراع المصالح الإقليميّة – الدوليّة المستعِر، خاصّة أنّ المواجهة باتت على حافّة الحرب المباشرة بين الدول.

وما يلفت الانتباه هو أنّ محاولة الحلّ في سوريا التي انطلقت آليّتها في فيينّا قد تأسّست على أمرين: وحدة الأراضي السوريّة، أي الحفاظ على الحدود التي تسمّى «سايكس – بيكو»، وعلمانيّة الدولة السوريّة، أو عدم طائفيّتها، أي عدم إعادة تأسيسها على أسس الإسلامي السياسيّ أو فكر الأغلبيّة والأقليّة. تصريحات الدول الخلافيّة بعد اتفاق فييّنا ظهرت حول مصير السلطة القائمة ولكن ليس حول هذين الأمرين.

سوريا أضحت في واقع الأمر مقسّمة وطائفيّة، على الأرض وفي الأذهان. و «داعش» و «النصرة» ما زالا يسيطران على أجزاءٍ كبيرة من أرضها. والمشروع الوطنيّ القادر على إعادة توحيدها والذي يسمو فوق الطائفيّة والقوميّة الضيّقة ما زال مغيّباً. والصراع عليها وفيها لم ينتهِ.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى