تركيا.. أين المفر؟

الشرق الأوسط معين مفاجآت لا ينضب. دائما وأبدا يحتفظ لشعوبه والعالم بحدث أو آخر، يقلب به موائد الاستراتيجية الدولية رأسا على عقب.

أكتب هذه المقدمة وفكري معلق بمقارنة أجريتها بين حال السياسة الخارجية التركية قبل، وفي مطلع ثورات «الربيع العربي»، وحالها هذه الأيام.

أذكر جيدا، ويذكر كثيرون، الأحلام الوردية التي جرت صياغتها في عبارات أكاديمية حالمة وغائرة في التفاؤل، لتتحول سريعا إلى سياسات واستراتيجية جديدة لتركيا. أذكر أحاديث أجريتها في دمشق مع مسؤولين كانوا سعداء ومرحبين بالاستثمارات والنصائح التركية ومستبشرين خيرا وفيرا. وأذكر تفاؤلا منقطع النظير بين فئات مختلفة من شعب مصر بعلاقة ودية ومثمرة تتقدم بسرعة بين مصر وتركيا. غلب على هذه الفئات الظن وقتها بأن ما تتشابه فيه الدولتان أهم كثيرا مما تختلفان فيه أو حوله. أذكر كيف تلقف المحللون السياسيون والأكاديميون تطورات السياسة التركية بالتنظير تارة والترحيب تارة والترهيب تارة ثالثة، وكيف شعر دارسون خبراءُ في العروبة وفي شؤون العرب وطقوس نزاعاتهم وخصوصياتهم وبعض خواصهم الاستثنائية، شعروا بواجب تنبيه زملائهم الأتراك من عواقب تفاؤلهم المبالغ فيه بدور متعاظم وحتمي لتركيا في النظام الإقليمي العربي، ثم في الشرق الأوسط عموما.

كان هناك في مطلع «الربيع العربي» إعجاب في العالم العربي بالزعيم التركي، وليس فقط بسياساته، وإعجاب بتركيا النموذج، وإعجاب في تركيا بثورات «الربيع»، وكان الأمل أن يتبنى الطرفان العربي والتركي مشروعا لانطلاقة تنموية وسياسية جديدة اعتمادا على هذا الإعجاب المتبادل. كان الإعجاب في حد ذاته مفاجأة في إقليم ظل يحمل أسوأ الذكريات عن هيمنة الإمبراطورية العثمانية. كان أيضا مفاجأة الانقلاب على هذا الإعجاب في مدة لا تتجاوز أربع سنوات. الآن يتحدث الخبراء عن حاجة ماسة لدى النظامين الحاكمين في القاهرة وأنقرة لفترة سماح ينتقل خلالها الطرفان من حالة التراشق بالتصريحات النارية والإعلام المتدهور فسادا وعلما وفنا، إلى حالة سكون تكتيكي ومنه إلى حوار استراتيجي.

مسؤولية تراجع العلاقات المصرية التركية يتحملها الطرفان، لا شك في هذا. ولكن الجانب الأكبر في هذه المسؤولية يجب أن يتحمله الطرف التركي لأسباب أراها عديدة ومهمة. فقد كان للأتراك موقع قدم في مصر في بداية الثورة يسمح لهم بلعب أدوار إيجابية. هذا الموقع لم تتمتع بمثله دول إقليمية ودولية أخرى. كان يمكن لتركيا من خلال الموقع المتميز في نفوس الثوار والشعب عامة أن تمارس درجة معتبرة من عدم الانحياز بين تيارات متناقضة ولم تكن قد تصارعت بعد. ولكن انحازت تركيا بصلف وعناد لتيار بعينه، وهي تعلم، وأنا أعلم أن مسؤولين وخبراء كبارا في تركيا كانوا يعلمون علم اليقين، أن هذا التيار لن يحظى بالرضا الشعبي العام، ولن يحظى بدعم المؤسسات صاحبة النفوذ في مصر، ولن تهادنه قوى الإسلام الرسمي في دول الخليج. يبدو واضحا الآن أن القادة الأتراك وقعوا هم أيضا في حبائل النظرية البريطانية الأميركية الساعية لوضع الشرق الأوسط تحت هيمنة شكل من أشكال ما أطلقوا عليه «الإسلام السياسي الوسطي» في ظل اعتقاد بأن الغرب اختارهم للمشاركة في قيادة الإقليم. انتظر الكثيرون في مصر ممن لا يعلمون بحقيقة النوايا الغربية أن تفلح تركيا في لجم تصرفات غير متزنة للحكومة الإسلامية المصرية، ولكن لم تفلح تركيا، وفي الغالب لم تحاول حتى تفلح أو لا تفلح. أضف إلى هذا الموقف، السلوك التركي تجاه نظام الحكم الجديد، وبخاصة تهافت المسؤولين الأتراك، وعلى رأسهم زعيم الحزب الحاكم وزملاؤه على الإدلاء بتصريحات مثيرة وغير مسؤولة أو مدروسة. أضف أيضا ما تسرب إلى المسؤولين الجدد في مصر وخارجها عن جهود تركية مكثفة طالبت على اتساع الشرق الأوسط ودول الغرب بالعمل على عزل نظام الحكم الجديد الذي أطاح حكم الإسلاميين، أو على الأقل تجاهله، تمهيدا لإسقاطه واستعادة حكومة إخوانية، تجدد التزامها التعاون مع تركيا على مستوى الإقليم والإنصات إلى نصائح وإرشادات الحزب الإسلامي الحاكم في تركيا.

لا أزعم، أو أتصور، أن الخلاف المصري التركي مسؤول وحده عن هذه الموجة من خيبات أمل وإجهاض أحلام عديدة راودت قيادات حزب «العدالة والتنمية» والمسؤولين عن السياسة الخارجية. سقط حلم الاستفادة من تراث الإمبراطورية القديمة ومكانتها لإقامة مكانة مماثلة لتركيا في الشرق الأوسط. فقدت تركيا، خلال السنوات الأخيرة، أصدقاء قدامى تقليديين في الشرق الأوسط، وفقدت أصدقاء كسبتهم خلال سنوات صعود النموذج التركي، أي قبل حلول موعد ثورات «الربيع». فقدت مثلا إسرائيل، ومع فقدانها إسرائيل فقدت دعم جماعات الضغط الصهيوني في الولايات المتحدة، وفقدت مكانتها المتميزة داخل الكونغرس. بل إن تركيا لا تستطيع الآن، وربما لمدة غير قصيرة، الادعاء بقدرتها على استخدام نفوذها وعلاقاتها الخارجية والإقليمية للتوسط بين العرب وإسرائيل لتحقيق سلام نهائي في الشرق الأوسط. هذه القدرة التي يبدو أن إسرائيل تسعى لإقناع الحكم الراهن في مصر بحقه وصلاحيته امتلاكها وممارستها، ليحل محل تركيا في وقت تبدو فيه أطراف الصراع كلها جاهزة لتصفية القضية الفلسطينية.

من ناحية أخرى، تدخلت ظروف عديدة لتحرم تركيا من موقعها الممتاز الذي كانت تتمتع به لدى حكومات الشرق الأوسط وأوروبا الغربية على حد سواء، وتمنحه لإيران. كانت الفترة الأخيرة فرصة رائعة لتحل فيها إيران مكان تركيا بدمشق. والآن تقترب إيران من التوقيع على اتفاق مع الدول الكبرى أعضاء مجلس الأمن لتسوية أزمتها مع الغرب. لقد كان مجرد إجراء مفاوضات طويلة الأجل بين إيران والدول الخمس الكبرى كسبا معتبرا لإيران، ودعما غير مباشر لنظام الحكم فيها وإضافة قوية لشرعيته الدولية. كانت هذه المفاوضات الناجحة بحساب معايير عديدة، بالإضافة إلى تطورات وتغيرات جوهرية في توازنات القوة الداخلية في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا، عناصر كافية لتبرير نجاح إيران في احتلال موقع في قائمة ترتيب النفوذ الإقليمي يتقدم كثيرا عن مواقع النفوذ التركي.

يتراءى لنا أحيانا خلال متابعتنا تفاصيل السلوك الخارجي التركي أن الحكومة التركية لم تضع في اعتبارها ضرورة أن ترتفع فوق النزاعات التقليدية بين الدول العربية، ولم تدرس جيدا مثلها مثل الولايات المتحدة وبريطانيا، حقيقة قوة «الإخوان المسلمين» في السياسة الداخلية لمصر ودول الخليج وليبيا. تدخلت طرفا في ما لا يجوز أن تتدخل فيه، وهي الزائر الضيف في منطقة لم يختبر بعد دهاليزها ولم يحسب جيدا حسابات القوة فيها. في الوقت نفسه، نسيت أو لعلها تناست أمر «داعش» وغيره، هنا أيضا كان واضحا أنها انزلقت في طريق السياسات الانتهازية التي تنتهجها دول عربية وغربية في التعامل مع منظمات الإرهاب، لتكتسب خبرة وتجارب من سبقها في هذا المضمار من هذه الدول. كان الظن في ما يبدو أنها تستطيع مقايضة أمنها وسلامتها والقضاء على نظام حكم بشار الأسد بفتح حدودها وتحويلها إلى ممرات لتمرير السلاح والإرهابيين.

تزامنت هذه التطورات السلبية في مجملها مع تطور آخر لا يقل أهمية، إذ بدا جليا أن وضع العضوية المعلقة لتركيا في الاتحاد الأوروبي ازداد سوءاً في هذه السنوات الأخيرة، وبخاصة بعدما اتخذت تركيا مواقف ضد سياسات أوروبية، مثل فرض العقوبات الاقتصادية على روسيا، ودعمها لإجراء الرئيس بوتين ضم شبه جزيرة القرم إلى بلاده وتدخله في أوكرانيا. لم يكن خافيا أنها تسعى لعضوية فاعلة في التجمعات الجديدة التي بدأت تنشط في آسيا وفي دول الجنوب، تعويضا عن عضوية في الاتحاد الأوروبي لن تحصل عليها. وفى قول آخر، ورد على لسان أحد كبار المعلقين الغربيين، أن حكومة الرئيس أردوغان تسعى للقفز من مركب الاتحاد الأوروبي المهدد بالغرق في الأزمات والخلافات والعجز الأمني في مواجهة التوسعية الروسية الجديدة وزحف الإرهاب.

يُعَزِّي بعض أعضاء الحزب الحاكم والاعلاميين في تركيا أنفسهم بتكرار الإشارة إلى إخفاقات في أقاليم ودول الجوار كافة، أكثر كثيرا أو أخطر من إخفاقات السياسة التركية خلال السنوات الأخيرة. يشيرون بشكل خاص إلى الشكوك التي استجدت حول «المشروع الأوروبي»، وإلى أن تجربة الاتحاد الأوروبي ومنطقة «اليورو» ربما قاربت درجة الانهيار. هناك دول أوروبية تتحدث الآن عن «الخروج» من الاتحاد أكثر من دول تتحدث عن الانضمام. هناك أيضا فجوة تزداد اتساعا بين دول الشمال الأوروبي ودول الجنوب، وهناك صحوة خطيرة لدى أنصار السياسات الشعبوية والنعرات القومية والعنصرية.

يشيرون أيضا إلى أوضاع دول تقع في الجنوب من تركيا حيث يعيش العالم العربي مرحلة عدم استقرار فرضته ثورات «الربيع العربي». وقد تأكد الآن لجميع الأطراف الدولية والاقليمية أن الدول المناهضة لـ «الربيع العربي» فشلت هي الأخرى في فرض استقرار سياسي في الإقليم، بل وفشلت في تقديم ضمانات بوقف عمليات الانفراط وعرقلة مسيرة «نهاية الدولة» في الشرق الأوسط. هذا الجنوب كان يمثل قبل أربع سنوات بالنسبة للمسؤولين الأتراك حزام الأصدقاء الذي كانت تحلم به حكومة العدالة والتنمية في تركيا. هو نفسه يمثل لهم الآن «حزام نار» واقتتال وإرهاب.

تركيا، في رأيي، تقترب من لحظة اكتشاف أن الاتحاد الأوروبي حلم ماضيها البعيد، أضعف من أن يحقق لها «الأوربة»، أي الاندماج في أوروبا، واكتشاف أن العالم العربي، غير جاهز أو صالح؛ أو قابل ليكون القاعدة الضرورية لإقامة نظام إقليمي جديد تحظى فيه تركيا بالزعامة أو القيادة والتوجيه. في الوقت نفسه، يدرك صانعو السياسة الخارجية التركية أن أوروبا لا تملك رفاهة الاستغناء عن تركيا، في وقت يتجدد فيه التهديد الروسي. يدركون أيضا أن الطلب العربي على دور قيادي لتركيا في الإقليم يتكثف يوما بعد يوم، وأن تركيا في يوم قريب سوف تجد نفسها أمام خيار رفضته طويلا، وهو أن تتولى قيادة، أو المشاركة في قيادة، تحالف مذهبي في الشرق الأوسط. دور لم تسع إليه ولم يكن واحدا من أحلام تركيا المعاصرة.

صحيفة الشروق المصرية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى