تركيا والأكراد: الخديعة الكبرى!

عكست التطورات العسكرية في الأسابيع الأخيرة في العراق وسوريا حجم الخداع الذي تعرض له الأكراد في البلدين، كما في الداخل التركي.

وبالرغم من أن الحركة الكردية المسلحة والشعبية بدأت في تركيا منذ العام 1925، وسبقت بذلك بعقود الحركة الكردية الموازية في العراق، فإن أكراد العراق باتوا قاب قوسين أو أدنى من الاستقلال الكامل، بينما لا تزال أنقرة تنكر عليهم أدنى الحقوق، وآخرها إغلاق مدرسة في ديار بكر كانت تريد تعليم اللغة الكردية، فأجابهم رئيس الوزراء احمد داود اوغلو بأنها خروج على القوانين التركية، ولن يسمح بانتهاكها.

في مقايسة «أكاديمية» يمكن القول إن أكراد العراق انهوا الدكتوراه، بينما أكراد تركيا لا يزالون في الصف الأول ابتدائي هذا في حين أن أكراد تركيا أكثر عدداً (12 مليونا على الأقل) بينما أكراد العراق بحدود خمسة إلى ستة ملايين. كما أن أكراد تركيا خاضوا المواجهات المسلحة الأكبر والأقدم والأشرس بمواجهة الجيش التركي.

ولعبت أنقرة، بكل أشكال السلطات التي تعاقبت عليها، كل ما استطاعت لمنع إعطاء الأكراد حقوقهم، ويستوي في ذلك العلمانيون والقوميون والإسلاميون. وقد واجهت الدولة التركية حركات التمرد الكردية بكل قسوة، فهجرت السكان الأكراد بالملايين، ودمّرت القرى بالآلاف، واعتبرت «حزب العمال الكردستاني» منظمة إرهابية، ونجحت في اعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في العام 1999، وهو لا يزال قابعا في السجن.

وبالرغم من أنهم كانوا الأكثر صلابة وتضحية، فإن أكراد تركيا وقعوا منذ عام ونصف العام ضحية تلاعب حكومة «حزب العدالة والتنمية»، عندما وافق أوجلان على البدء بعملية سلمية مع الدولة التركية كانت نتيجتها وقفاً للنار، وانسحاب العديد من المقاتلين إلى شمال العراق، وذلك في مقابل وعود من رئيس الحكومة حينها رجب طيب اردوغان بتحقيق تعديلات دستورية، تعترف بالهوية الكردية والتعليم باللغة الأم في الدستور والقوانين. لكن فترة سنة ونصف السنة مرت، ولم يتحقق شيء للأكراد، وهذه الوعود ذاتها أطلقها اردوغان عشية انتخابات العام 2011 النيابية، ولم يف بها.

لم يكن اردوغان مخلصا في تحقيق الوعود. إذ ان وعده المفاجئ للأكراد جاء في ذروة اندلاع «الربيع العربي»، وذروة العمليات العسكرية للأكراد ضد الجيش التركي. وبات اردوغان في وضع يريد مخرجا لورطته وتخفيف الضغوط عليه، حتى يبقى لمشروعه الإقليمي في منطقة «الربيع العربي» أملاً في البقاء على قيد الحياة.

وكان سقف الوعود، في مطلع العام 2013، أعلى من قبل، فقرر أوجلان المغامرة والدخول في العملية السياسية.

في هذا الوقت كانت تركيا تقدم كل أنواع الدعم للتنظيمات المتطرفة في سوريا، من «الجيش السوري الحر» إلى «جبهة النصرة» وصولا إلى تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» – «داعش»، من أجل مواجهة سيطرة «حزب الاتحاد الديموقراطي الكردي» على المناطق الكردية في سوريا، باعتبار انه الشقيق السوري لـ«حزب العمال الكردستاني»، أي انه في الوقت الذي كانت تركيا تهادن «الكردستاني» في الداخل، كانت تخوض، عبر المعارضة السورية، معركة ضده في سوريا. ومرت لحظات لم يمانع فيها أكراد سوريا بفتح حوار مع أنقرة عبر رئيس «الاتحاد الديموقراطي» في سوريا صالح مسلم محمد من دون نتيجة.

أما في شمال العراق، فكانت الخديعة التركية الأكبر مع «رئيس» الإقليم مسعود البرزاني، إذ ان الأخير يتحمل مسؤولية كبيرة في هذه الخديعة عندما غلب مصالح زعامته الشخصية، وتطلعه إلى أن يكون الزعيم غير المنازع لأكراد المنطقة كلها، في مواجهة أوجلان نفسه.

وقبل البرزاني أن يكون «حصان طروادة» لأردوغان في الداخل التركي، عندما اعتقد أن تحالفه مع اردوغان سيضمن له الزعامة أيضا على أكراد تركيا. وكان في ذلك واهما، على اعتبار أن لقاءه الشهير في ديار بكر مع اردوغان، نهاية العام 2013، قاطعه كل زعماء أكراد تركيا. ولم يكن اردوغان يهدف حينها من اللقاء سوى الى اكتساب بعض الأصوات الكردية بمواجهة «حزب السلام والديموقراطية» الكردي، الفرع السياسي لـ«حزب العمال الكردستاني»، في الانتخابات البلدية، وليس المساهمة في حل المشكلة الكردية في تركيا. أي أن البرزاني أخطأ عندما استخدمه اردوغان من أجل إضعاف جناح كردي أساسي في المنطقة هو «الكردستاني».

وأخطأ البرزاني عندما فضل تحقيق مكاسب اقتصادية مع «العدو التاريخي» للأكراد، عبر إبرام اتفاقيات النفط والغاز مع أنقرة، وذلك على حساب شركائه في الوطن العراقي، الذي لا يزال دستوريا هو المظلة التي تجمع أكراد العراق مع عربه، سنة وشيعة، الذين وافقوا على إعطاء إقليم كردستان كل ما يريده. ولم يكن البرزاني يدرك كثيرا، أن أنقرة كانت، بعقود النفط، تسعى لاستخدامه من أجل مصالحها في إضعاف حكومة بغداد برئاسة نوري المالكي للتخلص منها وليس من أجل خدمة المصالح الكردية.

وقد نجحت أنقرة في ذلك، فدقت إسفينا بين أربيل وبغداد لما يلتئم بعد.

وعندما غزا «داعش» العراق، بانت حقيقة الموقف التركي الانتهازي من العلاقة مع اربيل. دق «داعش» أبواب اربيل مهدداً، فسارع البرزاني إلى طلب النجدة العسكرية من «الشريك» التركي، وكان الجواب بالرفض صادما للبرزاني، وهو ما كشفه «رئيس حكومة» إقليم كردستان نجرفان البرزاني ورئيس ديوان «الرئاسة» فؤاد حسين.

لم تعمل أنقرة بمقولة «الصديق وقت الضيق»، وتركت أكراد العراق يواجهون مصيرهم بأنفسهم لوحوش «داعش»، لو لم تسارع أميركا إلى غارات تبعد «الدولة الإسلامية» عن اربيل، ولو لم يهرع مقاتلو «الكردستاني» بل أكراد من سوريا أيضا لنجدة البشمركة، ويقاتلوا جنبا إلى جنب دفاعا عن «الوطن الكردي».

وبان جيدا للبرزاني أن أوجلان، وإن كان منافساً له، فإنه رفيقه وشريكه الفعلي والوحيد في القضية الكردية. ووصل العداء التركي للأكراد إلى ذروته في حملة «داعش» الأخيرة على القرى الكردية، ولا سيما عين العرب، أو كوباني باللغة الكردية. وكان هجوماً «داعشيا»- تركياً بامتياز، ليس فقط لتعزيز النفوذ التركي في شمال سوريا، عشية بدء عمليات التحالف الدولي، بل «رسالة تأديب» تركية لكل من البرزاني وأوجلان على تعاونهما. وهو هجوم بلا شك سيترك أثرا سلبيا على ما يسمى وهماً عملية الحل للمشكلة الكردية في تركيا، وقد يدخلها في مسارات جديدة.

إذا كان من درس يتعلمه الأكراد، في العراق وسوريا وتركيا، من التطورات الأخيرة في المنطقة، فهو أنهم باتوا يعرفون الصديق الفعلي من العدو.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى