خرجتُ من المنزل ظهراً قاصدة أحد المحالّ القريبة، كان الشارع يغصّ بالأولاد ذوي الأعمار المتفاوتة، إلّا أنّ الأمر اللافت للنظر هو أنّ غالبيتهم كانوا يمشون بخطىً متسارعة حاملين بين أيديهم أكياساً سوداً من الحجم الصغير.
في الوقت الذي كانت فيه الأكياس تتأرجحُ بين أيديهم إلى الأمام وإلى الخلف؛ لم يكن من الصعب تمييز ذلك البريق المتلألئ داخل أعينهم موحياً بسعادتهم البالغة.
كان الأمرُ لافتاً بالنسبة إليّ لأنّ من عادة الأطفال أن يتباطؤوا في مسيرهم وهم يحدّقون في كل شيء حولهم، محاولين إطفاء دهشتهم المتّقدة بإطالة الطريق على أنفسهم والتمتّعِ بأطول مشوار ممكن، إلّا أنّ الأمر كان مختلفاً هذه المرّة.
في طريق العودة؛ سار أمامي طفلان صغيران بدا النقاشُ بينهما محتدماً.
استطعتُ تمييز ذلك الصوت المنبعث من الأكياس التي يحملونها، لقد كان من الأصوات التي تطرقُ على الأذن طرقاً شديداً ولا مجال لأن تخطئهُ البتّة. لقد كان صوتَ صيصان صغيرة!!
كان الحديث الدائر بين الطفلين يدور حول مدى صحّة الفرضيّة التي تقول بأنّ الصيصان المصبوغة بالألوان تعيش فترة أقصر من الصيصان ذات اللون الطبيعي.
أعجبتني كثيراً تلك النزعة الفضوليّة التي تكوّنت لديهما لأجل إثبات أو دحض تلك الفكرة، كما أعجبتني استكانتهما الواضحة للحُكمِ الذي ستؤول إليه التجربة بعد أن سمعتُ أحدهما يختمُ الحديث مُتحدّياً: أي بكرا منشوف!
وبينما كنت أراقبُهما وهما يسترقان النظر إلى أكياسهما كل حين ليطمئنّا إلى حال الصيصان؛ تذكّرتُ كيف كان أخي الأصغر يبدأ مباحثاته المُلحّة مع أمّي بشأن اقتناء أحد الحيوانات في المنزل كالكلاب أو القطط أو العصافير أو السلاحف أو غيرها، وكيف أنه كان يُتبِع اسمها بلفظة “صغير” أو “صغيرة” مُقلّصاً دائرتي عينيه ومقرّباً يديه الصغيرتين إلى بعضهما البعض كي يستدرّ عطف أمي ويبسّط الموضوع في نظرها.
ولأنّ أمّي كانت ولا تزال من النوع الذي لا يقوى على رفض طلباتنا حتى وإن كانت تصعب عليها؛ كانت تسمحُ لأخي بإرواءِ شغفهِ باقتناء حيوانه الأليف مُستسلمةً لرغبته الشديدة في ذلك.
وكان آخر الحيوانات التي اقتناها سمكتين ذهبيّتين اشتراهما الشتاءَ الماضي، أسماهما “لوكلوس” و”نيمو”.
كان لمراقبتهما وهما تسبحان في الحوض الزجاجي متعة خاصة؛ فإلى جانب تأمّلِ تفاصيلِ تكوينهما الدقيق ولونهما المميّز كانتا تشدّان العين بحركاتهما البهلوانيّة في الماء وكأنهما ترقصان.
اعتاد أخي أن يضعهما إلى جانبه عندما يرسم أو يدرس أو يقوم بأي عمل، وأولاهما اهتماماً كبيراً للدرجة التي جعلته يخصّص لإطعامهما وتبديل المياه في حوضهما مواعيد منتظمة لا يغفل عنها أبداً.
بعد حوالي الشهرين لاحظ أخي بأنّ “لوكلوس” لا تسبح كعادتها ولم تأكل الطعام الذي قدّمها إليه، فما كان منه إلا أن داوم على العناية بها كما لو كانت طفلاً صغيراَ أعياه المرض، فكان يسهرُ يراقبُ حركتها وأكلها ويدفّئ لها المياه مخافة أن تبرد، ولكن رغم ذلك كانت لوكلوس مريضة للغاية ولم تستطع المقاومة، فاستيقظنا في الصباح التالي لنجدها طافية على سطح الماء بلا حراك!
لم يكن غريباً أن نجد أخي يدفن سمكته في ذلك اليوم وقلبهُ يطفح بالحزن عليها، فقد اعتدنا على محبّته وتعاطفه الكبير مع الحيوانات، ولن أنكر بأنّ مسحةً من الكآبة غزت منزلنا ذلك اليوم.
وبعد أن أصبحَ الحوض فارغاً من “لوكلوس” دخلت “نيمو” بحالةٍ غريبةٍ جعلتها تضربُ الزجاج بقوة وتتحرك جيئةً وذهاباً كما لو أنّها التاعت لموت صديقتها المفاجئ، ثم أخذ نشاطها يخفّ تدريجياَ حتى أصبحت بالكاد تتحرك.
حاول أخي أن يحتال عليها بأن يضع لها المرايا أمام الحوض لتعكس صورتها وتظن أن هناك مَن يقاسمها الحوض، كما أنه وضع ألعاباً داخله وأخذ يحرّكها بخيوط من الأعلى علّها تجد فيها أُنساً، ولكن دون جدوى.
أشارت عليه أمّي بأن يشتري سمكة أخرى ويضعها معها إلّا أنه لم يرغب بذلك، ولم نجده إلّا وقد وضع الحوض داخل كيس وخرج من المنزل مسرعاً.
عادَ بعد قليل بعينين ذابلتين ويدين فارغتين، وأخبرنا بعد أن سألناه عن نيمو بأنه تركها في مكان أكبر وأجمل من حوضها الصغير ذاك وبأنها لا بد وأن تسعد كثيراً في منزلها الجديد.
عجبتُ لتصرّف أخي يومها، فقد جعلني أرى كيف يبلغُ الحبّ بنا مبلَغَهُ إلى درجةٍ نختار فيها أن نقسوَ على أنفسنا في سبيل سعادةٍ نتأمَّلُها في قلبِ مَن نُحِبّ!
ربما تكون أهمّ متطلّبات التضحية في الحياة هي أن نسمح لصوت العقل بأن يسيّرنا، بينما نصمّ آذاننا عن همسَ القلبِ وشعوره!
ولكن يبقى السؤال: إلى أيّ مدى يمكننا فعل ذلك يا تُرى؟!
وكمّ مرّةً على قلوبنا أن تصمُت؟!
الأمر الذي لا نزال نذكره من تلك الحكاية ويُضحِكُنا كثيراً إلى الآن هو تعليقُ أخي على رؤيته ل”نيمو” بعد فترة في حوض البائع الكبير وهي تسبح مبتهجة إلى جانب أصدقائها الجدد، دون أن تأبه لوجود ذلك المسكين الذي حزن عليها ذلك الحزن وعاد ليطمئنّ لحالها – حسب تعبيره-، وقد كان تعليقه الظريف على الموقف: هلّا عرفت ليش ذاكرة السمكة بينضرب فيها المتل!
بوابة الشرق الأوسط الجديدة