تعطيل الملاحة في البحر الأحمر: أوروبا خاسرٌ كبيرٌ كما إسرائيل…يدين الغرب أنّه لا يتورّع عن الاستمرار في حياكة المؤامرات وممارسة الاعتداءات على كل من يخالف سياساته. وها هو يحرّض عبر حكوماته ووسائل إعلامه، على الشعب اليمني عبر تقديم تفسير خاص به لقرار اليمن محاصرة إسرائيل ومنعها من الإبحار في البحر الأحمر وباب المندب وبحر العرب رداً على حصارها لقطاع غزّة. ويروّج الغرب بأن القرار يستهدف حركة التجارة العالمية في هذه الطرق والممرات البحرية، من منطلق أن ما يجري يمثّل تهديداً لكل الملاحة البحرية في العالم.
فيما الهدف الذي ترمي إليه واشنطن هو خدمة العدو الإسرائيلي، وليس إعلان أربع من أكبر شركات النقل البحري العالمية. التي يصادف أنها غربية المنشأ، بأنها ستوقف الإبحار عبر البحر الأحمر، إلّا أحد أمثلة هذا التهويل الذي يقوم به الغرب. مع العلم أن القوات المسلحة اليمنية كانت واضحة جداً في جميع بياناتها. كما أكّد مسؤولو أنصار الله في كل تصريحاتهم، أن العمليات التي تقوم بها اليمن في البحر موجهة فقط نحو البواخر المتوجّهة إلى إسرائيل. أو تلك التي على صلة بالكيان المحتل.
تعطيل الملاحة في البحر الأحمر:
ما تقوم به شركات الشحن البحري العملاقة يصيب كل حركة الشحن في العالم. وهذا الأمر يتعلّق بافتعال بتعقيدات على سلاسل التوريد العالمية، التي أصبحت تحتاج إلى تقنيات حديثة في إدارتها. وفي هذه العملية المعقدة، تصبح عواقب أي خلل في الشحن البحري مؤثّرة على الصعيد العالمي أيضا. بخاصّة أن الشركات المذكورة، ضخمة لدرجة أن أعمالها تمتد عبر بحار العالم ولا تختص بالنقل من منطقة إلى أخرى. وبحسب التقديرات، تبلغ حصة الشركات التي أعلنت عن تعليق الإبحار في البحر الأحمر من مجمل حركة النقل البحري العالمي نحو 54% من هذه الحركة العالمية. وهنا يمكن الغوص في بعض نتائج هذه القرارات المحتملة.
سلاسل التوريد: تهديد حقيقي لاقتصادات الدول
الاقتصاد الحقيقي، هو، بشكل عام، ما يتعلّق بالإنتاج، الذي يعتبر العصب الأساسي لأي اقتصاد. صحيح أن الأسواق المالية هي أحد أهم مصادر الأرباح في الاقتصاد الرأسمالي، إلّا أنّ عوامل الاقتصاد الحقيقية (الإنتاج والتجارة والاستهلاك) هي العوامل التي تسهم في تحريك العجلة الاقتصادية أيضا. وأنّ أي ضرر يلحق بها له انعكاسات كبرى على الاقتصاد. النقطة المهمّة هنا هي أن سلاسل التوريد وسلاسل الإنتاج هي العمليات التي تدفع عوامل الاقتصاد الحقيقي للعمل بشكل سليم.
ولا ضرورة للذهاب بعيداً لتوضيح هذه الفكرة، فالعالم لم يتعافَ بعد من آخر صدمة حصلت عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، حيث ضربت سلاسل التوريد في عدد من القطاعات، وأهمّها الغذاء والطاقة أيضا. ونتيجة لهذا الخلل، ارتفعت الأسعار العالمية لمختلف السلع، ما أسهم في حصول موجات تضخّم في غالبية دول العالم. ولم تكن أي أداة، من الأدوات الحديثة التي يستخدمها صنّاع السياسات، مثل الأدوات النقدية أو المالية. فعّالة في وجه ارتفاع الأسعار، إذ كان السبيل الوحيد هو معالجة أساس المشكلة، وهي سلاسل التوريد. عندما استقرّت هذه السلاسل على الواقع الجديد، توقّف الارتفاع الكبير في الأسعار، وعادت معدلات التضخّم إلى مستويات «معقولة» أيضا. ولكن هذا لم يمحِ أثر الارتفاع السابق في الأسعار. بمعنى آخر، جلّ ما حصل هو أن معدّل التسارع في ارتفاع الأسعار أصبح معقولاً،. كما ولم تنخفض الأسعار إلى المستويات التي سبقت الحرب الروسية الأوكرانية.
ما يحدث اليوم في البحر الأحمر
ما يحدث اليوم في البحر الأحمر، وما يخطّط له اللاعبون على وتر الحرب الإسرائيلية على غزة أيضا. قد يكون إنذاراً لمشكلة قادمة على صعيد سلاسل التوريد. في هذا السياق، لا بدّ من توضيح أهميّة قرارات عمالقة النقل البحري الغربيّين. فالنقل البحري في البحر الأحمر يمثّل نحو 12% من التجارة العالمية. و30% من التجارة البحرية العالمية، وهو يقدّر بنحو تريليون دولار سنوياً. والمتضرر الأساسي من قرار هذه الشركات هو أوروبا، إذ إن هذا القرار يضرّ نحو 50% من التجارة بين شرق آسيا وأوروبا. كما وتحوّل هذا الحجم من التجارة من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح. وبالتالي الالتفاف حول أفريقيا، يعني زيادة مدّة الرحلات بنحو 10 أيّام. وفي بعض التقديرات أكثر من ذلك. وهذا الأمر له نتائج مختلفة:
أولاً، الانعكاس على كلفة النقل. فسلوك طريق أطول يعني كلفة نقل أعلى أيضا. وهذا الأمر سينعكس بشكل مباشر على أسعار السلع المنقولة. فعلى سبيل المثال، الرحلة من سنغافورة إلى روتردام ستزداد مسافتها بنحو 40%. كما ينعكس الأمر على كلفة تأمين البضائع أيضا. وهي أيضاً تشكّل إحدى الأكلاف المهمة التي تنعكس على أسعار البضائع. فالمستورد، يدفع هو أيضاً كلفة التأمين على بضائعه. وبالفعل، رفعت شركات التأمين الكلفة على البواخر التي تمرّ في البحر الأحمر. حيث أصبحت تشكّل نحو %0.5 إلى 0.7% من قيمة البضائع بعد أن كانت في بداية الشهر الحالي نحو 0.07%. ثم هناك الكلفة غير المباشرة لتعطّل سلاسل التوريد أيضا. وهي تلك التي تتمثّل في تأخّر وصول البضائع، وهو ما ينعكس خسائر مؤكدة أيضا.
فإذا كانت البضائع للاستهلاك النهائي، ستنتقل الخسارة إلى التاجر المستورد غير القادر على تصريف بضائعه، وإذا كانت بضائع تستخدم في الإنتاج، تتأخّر عمليّة الإنتاج في الاقتصاد المستورد أيضا.. وهنا ينتقل الخلل في سلاسل التوريد إلى الاقتصاد الحقيقي، الذي لا يمكن معالجة مشكلاته إلّا عبر حلّ أصلها (وهنا الحلّ هو العودة إلى الإبحار في البحر الأحمر).
الشركات الغربية ليست الوحيدة
صحيح أنّ شركات الشحن الصينية الكبرى لحقت بالشركات الغربية في تعليق سلوك مسار البحر الأحمر. ولكنّ هذا الأمر لا يعني أنها ستبقى على هذا الحال لوقت طويل.
محوران يتأثران بملف سلاسل التوريد: الأول هو المحور الأوروبي. و الثاني هو المحور الآسيوي. وعلى رأسه الصين كأكبر دولة منتجة في العالم. ومن الطبيعي أن يصيب الضرر الحاصل، بسبب تعليق الإبحار عبر باب المندب، البلدان المصدّرة. ولأن التهديد الحقيقي ليس لكل البواخر المارّة في البحر الأحمر، وهو أمر تعرفه الصين بعيداً عن البروباغندا الغربية. قد لا تطول المدّة قبل أن تقرر الشركات الصينية العودة للإبحار في البحر الأحمر.
وكأكبر مصدّر في العالم، تهدف الصين إلى إيجاد أفضل السبل لنقل بضائعها نحو مختلف بقاع العالم. وهو أصلاً أحد أعمدة مبادرة «الحزام والطريق»، تحت عنوان «التجارة من دون عوائق». وفي حال عادت الشركات الصينية للإبحار في البحر الأحمر، قد يشكّل هذا الأمر مشكلة للشركات الغربية. لأنه في هذه الحالة. تؤمّن الشركات الصينية بديلاً أقل كلفة لنقل البضائع من شرق آسيا إلى أوروبا. ما يعني أنها ستتقدّم على الشركات الغربية في المنافسة على حصّة قطاع نقل البضائع البحري أيضا.
في الخلاصة،إن تبعات تعليق سلوك مسار البحر الأحمر ليست عملية سهلة، والضغط الذي تمارسه الشركات الغربية، ومن خلفها الولايات المتحدة على اليمن، غير مستدام، لأنّ نتائجه السلبية على الاقتصاد الأوروبي في الدرجة الأولى، ستكون كبيرة، سواء لناحية ارتفاع أسعار السلع القادمة من الشرق، أو لناحية عرقلة سلاسل التوريد أيضا. ومن المثير للاهتمام معرفة كم ستتحمّل شركات الشحن أن تبقي على قرارها.
صحيفة الأخبار اللبنانية
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك
لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر