Uncategorized

تقاسيم على مقام الثورة.. من 14 جويلية إلى 14 جانفي

تقاسيم على مقام الثورة.. من 14 جويلية إلى 14 جانفي..لنبدأ بالروس أوّلا : أطلق البلاشفة ثورتهم الساخنة في عزّ شتاء موحش وأكثر قسوة من قلوب القياصرة ,أطلقوها انتقاماً لأم (مكسيم غوركي) وشخوص (تشيخوف) و(تولستوي) ومجانين (غوغول) , تطايرت شظاياها إلى مختلف أنحاء العالم حتى وصلت جنوب أمريكا،بعضها هزّ العالم في عشرة أيّام وبعضها في عشر ساعات وبعضها لم يهزّ منه خصلة شعر واحدة.

اختلف معهم المناشفة وأسّسوا أمميّتهم الرابعة – تعاطفت معهم شخصياً-…لست أدري لماذا خلقني الله رجلا متعاطفا مع الأقليات -وفي بداية وعي ثوريّ قد يكون مزيّفا …لكنّي لست نادما على كل حال.

ربما كانت ضربة الفـأس التي استهدفت تروتسكي، على رأسه الباردة وفي منفاه المكسيكي، قد أوجعت الكثير من مناصري تصدير الثورة وعشّاق مؤسس الجيش الأحمر.

لم تستطع ثورة الجياع الروس أن تعمّر أكثر من سبعين عاماً أو ما يزيد …وبعدها نخرها و نهشها وهشّمها المتربّصون والمتآمرون والحقيقيون والكذّابون والمحرومون والمنتفعون على حدّ سواء.

عاد رفاة القياصرة فوق الأكفّ التي كانت بالأمس تصفّق لأعدائهم …وعاد الرصاص من الصّدور إلى البنادق , عادوا ليرقدوا مع خصومهم فوق أرض واحدة ويتركوا للتاريخ التحدّث عن التاريخ وللأجيال الحكم على الأجيال

عادوا مثل شيخ إلى صباه، مثل سهم إلى قوسه.. والأهم من ذلك كلّه أنّهم عادوا من تراب أوروبي عمّدته الثورة الفرنسيّة بدماء (البؤساء) : (غافروش)العاشق و(كوزيت) الحالمة و(جان فلجان) المغامر, ذات صيف باريسي قائظ.

غريب أمر هذه الثورة المزمنة … إنها الأقدم والأعرق والأخطر في تاريخ البشرية ,ربما لأنها رفعت شعارات ثلاث.. (الحرية, المساواة ,الأخوّة).. قيم ثلاث ليس لها عمر ولا منافس ,خالدة وباقية بقاء الظلم والتفرقة والحرمان.

اقتحم الجياع سجن الباستيل وأفرج عن كتابات فولتير و هيغو وقال (ميرابو) خطيب الثورة الفرنسية (جئنا هنا على أسّنة الرماح ولن نخرج إلا بإرادة الشعب).. رفعت المقاصل والأقلام ولم تجفّ الصحف ولا العروق .. وقطعت رؤوس أعداء الثورة كما قطعت رؤوس عشّاقها وصانعيها ومناصريها.

هذه حال الثورات على كلّ حال-من “حمدان” القرامطة في بلاد البحرين إلى زنج البصرة- ,يعلو وطيسها وتخبو شعاراتها وتأكل بعض أبنائها ولكنّ الثورة تبقى ثورة وتسمّى ثورة ويعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء..

تتذكّر البشريّة نزول (النورماندي) الشهير الذي أعلن انتصار الحلفاء كما تتذكّر امرأة مسنة فستان عرسها ويوم ميلاد ابنها البكر وحبّها الأوّل وقبلتها الأولى رغم خلافاتها الطويلة والمتكرّرة مع زوجها.

لا يمكن للبشريّة أن تنسى وديعة خبّأتها في صندوق الذاكرة اسمها الثورة الفرنسيّة.

14جويلية : يوم صنعته الإنسانيّة بأسرها ونفّذه الفرنسيون وكان على الأخيرين-ومهما كانت حكوماتهم- أن يعوا جسامة المسؤوليّة وضرورة حراسة دم من استشهد لأجل تلك القيم النبيلة.

سوف نحاول أن ننسى ما اقترف ضدّنا من أخطاء وتجاوزات كي لا نتّهم بالحقد والضّغينة وسوف نحفظ عن ظهر قلب ما قاله (مونتسكيو) و (جان جاك روسو) وسوف نآخي –دون عقد أو مركّبات -بين لغتي موليير والمتنبّي كي نثبت لفولتير أنّنا نفهمه جيّدا ونحترمه جيّدا وقد نحفظ إرثه أكثر من ذرّيته.

سوف نقف احتراما لنشيد(المارسييز) ولكن, بعد أن نضع الزهور على قبور شهدائنا الذين سقطوا من جبال الأطلس مغربا إلى جبل الدروز مشرقا..

كل من تصفّح التاريخ بعيني إنسان يدرك جيّدا أنّ ثورات كثيرة قد ولدت في رحم قيم الثورة الفرنسيّة كي تصحّح المفاهيم الملتبسة حول الإخاء والحريّة والمساواة ولا تجعل تلك القيم عباءة فضفاضة يتستّر تحتها المستكرش والمستضعف ,الذئب والحمل.

عرفت البرجوازيّة الأوروبيّة كيف تعالج أمراضها وتحافظ على نضارتها وتذيب جبال الجليد بين طبقاتها بفضل إرثها الثقافي ومؤسّساتها القانونيّة.

تذكّرت هذا وأنا أتصفّح دفترا قديما:

جدّي قتله المعمّرون الفرنسيون شرّ قتلة –وبطريقة قيل إنّها شنيعة – بسبب إقدامه على حرق محاصيل قمحهم قبيل الحصاد …انتقاما لأرضه المسلوبة.

كان جدّي يصيد أسمن الجرذان ,يحمّمه بالبنزين ثمّ يلقي بالحيوان الصغير كتلة من لهب تركض مذعورة بين السنابل اليانعة.. الآن أركض مذعورا في الشارع الطويل الذي سمّي باسم جدّي الشهيد وقد امتلأ بالجرذان السّمان..

* أمّا 14 جانفي\يناير التونسية فتاريخ مازال يكتب ولم يجفّ حبره بعد …آخر هذا الحبر دم الشهيد شكري بلعيد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى