تلك الفتاة الجميلة النصابة !

للطوابع قصة طريفة تأخذني إلى أيام زمان، فقد كنت من هواة جمع الطوابع، وكنتُ فتى في مقتبل العمر، عندما تمكنت بدأب واجتهاد من جمع العشرات منها في مجموعة نماذج مهمة من شتى أنحاء العالم .

ولأن الهواية ينبغي أن تكون منظمة، فقد اقتنيت محافظ خاصة لطوابعي، وصنّفتها حسب حجومها ومصادرها وتواريخها، وكان من السهل تقليب مجموعتي للتعرف عليها، فمجموعة الطوابع ينبغي أن تكون مرتبة لكي لايتلف أي (سن) من أسنان الطابع التي تحيط به، كما كنا نعتقد، فذلك يُنقص من قيمتها كما تنقص قيمة العملة الصعبة!

وهواية جمع الطوابع تضيف لصاحبها ثقافة منوعة عن البلدان وآثارها وشخصياتها التي تصور على وجه الطابع، وكانت هذه الثقافة تتسع عندي، لتصل إلى اهتمام بالجغرافيا والآثار والأباطرة القدماء والحضارات القديمة، ولم يكن من السهل إيجاد أجوبة على أسئلتنا التي تتوالد كل يوم وفضولنا الذي يكبر مع كل معلومة. كان ذلك يستلزم كتبا، بعكس وسائل اليوم التي وفرت المعلومة بسرعة البرق على محرك غوغل الأسطوري ..

إضافة إلى ذلك، كان على كل هاو لجمع الطوابع أن يبحث عن أصدقاء يشاركونه الهواية نفسها، والتعرف على هؤلاء الأصدقاء كان يتم عبر المجلات والصحف، وهذا يعني أن الهواية تتطلب قراءة من نوع خاص تضيف لصاحبها شحنة معلومات منوعة!

المهم، كانت طوابع سورية تتصدر الألبوم الخاص الذي اقتنيه، ثم تأتي طوابع الجمهورية العربية المتحدة المتعلقة بوحدة سورية ومصر، ثم لبنان، وكان لدي طوابع لفلسطين والأردن ، ومن بلدان العالم كان هناك طوابع من إيطاليا وردتني بكثرة لأن ابني عمتي كانا يعيشان فيها ، ومن فرنسا ، وثمة طابعان لا أنساهما من الصين..

فجأة . صادفت فتاة تحمل الهواية نفسها، والغريب أنها كانت بعمر قريب من عمري، أي أنها فتاة صغيرة، كانت جميلة سلسة ناعمة ، لكنها مفتونة بهوايتها إلى الدرجة التي دفعتها لدعوتي إلى بيتها للتعرف على طوابعها ، وهناك رحبت أسرتها بي، وقالت أمها إن الأطفال قادرون على التعارف أكثر منا نحن الكبار، ولم أفهم هذا المعنى ..

لم أكن أتصور أن تسحرني تلك الفتاة الصغيرة، إلى هذا الحد.. قالت لي بذكاء فطري:

ــ أنا لا أستطيع أن أزورك في البيت . تعال غدا ومعك الطوابع التي جمعتها !

وبالفعل . وفيّت بوعدي، وجئت أحمل كل الطوابع ، فأدهشها ترتيبي لها في محافظ خاصة، وأصرت أمها أن أتناول الغداء معهم، فأكلت على طاولة أنيقة، وكنا نحن نأكل على طبق في وسط الغرفة. ويوما بعد يوم ، لم أعد ألتفت إلى جمع الطوابع لنفسي. تركزت هواجسي بتقديم كل طابع جديد لتلك الفتاة.

في آخر مرة زرتها كنت أحمل مجموعة طوابعي، وقد أضفت إليها طابعا جديدا يحمل صورة ملكة بريطانيا. في تلك الزيارة، أخبرتني الفتاة أنها ستسافر مع أسرتها، وقالت لي بدلال وغنج:

ــ أنت أحسن صديق تعرفت عليه. فأنت نظيف ومرتب وتعرف كل شيء عن الطوابع !

أسعدني إطراؤها . لم أكن أتوقع ثمن هذا الإطراء، فقد أمسكت الفتاة يدي، وهمست تسأل باستجداء:

ــ ألا تحبني ؟! فقلتُ بعفوية وصدق :

ــ بلى! .. وهنا سارعت إلى استثمار جوابي :

ــ إذن أعطني الطوابع التي معك !

وأعطيتها الطوابع!

أخذتْ الفتاة الجميلة مجموعتي دفعة واحدة، وبقيتُ أتذكرها إلى أن كبرت، وكانت الذكرى تشتعلُ عندما تأتيني رسالة بالبريد العادي، فذلك يعني أنني سأسارع إلى نزع الطابع لأقدمه إلى تلك الفتاة عندما تعود، لكن السنوات مرت ولم تأت بعد!

ظلت الطوابع التي جمعتها من جديد بحوزتي، لعل الفتاة الجميلة تأتي لتراني عجوزا ينتظر صديقته التي أحبها ليعطيها ماجمعه من طوابع جديدة!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى