توصية تشومسكي لـ«الحراك»: القطيعة مع السلطة

نعوم تشومسكي على حق. يرفض أن يكون عضواً في فريق أو وفد يلتقي مسؤولاً حكومياً في أميركا. سئل عن السبب، وهو الكريم جداً في توقيع بيانات وعرائض تنتقد السياسات الأميركية المنحازة إلى ممارسة العنف والحرب والمنحرفة عن القوانين الدولية. قال تشومسكي «وماذا أقول لهم؟ إنهم يعرفون وليسوا جهلة». المشكلة ليست في عقولهم بل في مصالحهم. المشكلة، أنهم يعرفون كثيراً، فلديهم الخبراء ومراكز الأبحاث والمؤسسات التخطيطية، ودوائر تقديم النصح. المشكلة في خياراتهم التي تؤدي إلى تكريس سياسة الارتكاب.

وعندنا في لبنان، ما يشبه ذلك. الطبقة السياسية التي يُظنّ أنها أمية، تملك عبقرية الاستمرار في السلطة. تعرف الدستور وتخالفه. تعرف القوانين وتدوسها. تعرف المؤسسات وتتخطاها. تعرف أتباعها وتوهمهم بالصدق. الطبقة السياسية التي أوصلت البلد إلى حافة الكارثة، طبّقت سياسات تخريبية، بوعي منها وبمعرفة بعواقبها وبحسبة رقمية لأرباحها. مطمئنة أن ساعة الحساب توقفت على التوقيت الطائفي. وهو توقيت يتغاضى عن فعل الارتكاب وزمنه، ويعطل أخلاقية المحاسبة موفراً للمرتكب، براءة مسبقة.

ومَن يرفضون لقاء السلطة على حق. والذين يمارسون القطيعة معها، يوفرون للحراك مساحات من التحرك والجدوى. ليست مسؤولية الحراك نصح هذه الحكومة ومن خلفها من الطبقة السياسية. ليس الحراك مستشاراً لتقويم أو تعليم سياسات الحكومة وطبقتها. هي تعرف كل شيء، وتعرف حجم الارتكاب وثقل المسؤولية بالاعتراف، هي تعرف قصة الأملاك البحرية ولديها وثائق بمن اغتصب وحمى هذه الاحتلالات وابتدع التسويات المبرمة لتهريبها من المساءلة والمحاسبة، وقاسمها الأرباح والدعم والقدرة على النمو والتمادي، حتى باتت طبقة محتلي الأملاك البحرية، جزءاً لا يتجزأ من السلطة و «قادة المحاور» المقتنصة حظوظ الشواطئ… وعندما يقال، «لا بحر في بيروت»، فلأن الملكية انتقلت من سكان بيروت اللبنانيين، إلى صكوك مبرمة مسجلة في استثمارات ذات حضور سياسي/ مالي/ مناطقي، مدعّم بالطوائف والمذاهب كافة.

هذه السلطة تعرف أن من واجبها استرداد هذه الأملاك البحرية بكاملها، لأنها ملك الشعب، والتصرف بها محال، خارج نطاق تطبيق القوانين. هذه شواطئ محتلة في زمن الحرب، وازداد احتلالها في زمن السلم الطائفي… هذه الطبقة لا تفعل ذلك، بسبب جهلها، بل بسبب استذءابها (من ذئب) وإتقانها فنون التهرب من القوانين وأساليب التأثير على القضاء والأجهزة الرقابية، لما توفره هذه الاحتلالات المنتشرة على طول الشاطئ اللبناني، بتلاوين بيئاته المذهبية والسياسية، و «بعدالة» توزع المنهوب بـ «العدل الواقعي»، من نفوذ وزبائنية ومنافع تصب في المحفظة المصرفية الخاصة بكل مرتكب ومَن يحميه.

هي تعرف قصة الكهرباء، من لحظة الانقلاب الناجح المدعم إقليمياً، على وزير الطاقة الأسبق المرحوم جورج افرام. بعده، تحوّلت الكهرباء إلى مغارة، يرتادها مداورة، أهل السلطة، من دون تداول من الجهات الداعمة لبقاء الكهرباء في حالة عجز. هذه السلطة ومن جاء قبلها، تعرف جيداً كيف تنتج الكهرباء وبأي كلفة وبأي برامج وبأي وسائل وبأي مدى زمني… هذا من أسهل الأمور. ان تصبح الكهرباء 24/24، أمر في متناول اليد. ولكن ما العمل، وأصحاب القرار، «يدهم طويلة» جداً.

هذه الطبقة لا تريد تحرير اللبنانيين من حاجتهم إلى الكهرباء، من أي مصدر. والمصادر متعدّدة، وذات ولاءات وتمتّع بحمايات، وموزعة محاصصات. ان الكهرباء غير متوفرة للبنانيين بقرار سياسي، والمستفيدون من هذا القرار، ليسوا طيّ الكتمان. وعبثاً يحاول الفريقان تحميل مسؤولية التعطيل على الخصم. الاثنان شريكان. وبعد أكثر من عقدين، ما زلنا بلا كهرباء… ليست العلة في الجهل، بل في الجشع الفالت من دون أي محاسبة.

هذه الطبقة تعرف جيداً كيف تصادر أنظمة وقوانين الجامعة اللبنانية، لضمّها إلى ممتلكاتها. الجامعة اللبنانية حقل استثمار فائض بالمنافع. يربط النخب الجامعية، العلمية والثقافية والحقوقية والفنية، برضى أصحاب الحل والربط… استقلال الجامعة اللبنانية، خطير جداً. يحرّر النخبة العلمية الثقافية من قيد الحماية وقيود الاستتباع. فبماذا تنصح الطبقة السياسية وهي العارفة بدقة كل ذلك. كل «مثقف» تابع، ذا تأثير في المجتمع، وذا نفع للموقع… فمن الغباء الشديد التشكيك في عبقرية هذه الطبقة التي أحكمت سيطرتها على مفاصل البلاد السياسية العليا، وعلى مفاصل الإنفاق الحكومي السخي، وعلى شيكات الاستفادة منها. لقد تفوقت هذه الطبقة بما تملكه من ليونة، و»تفهم وتفاهم»، وخلافات محسوبة الأرباح من ربط مصالح «الشعب» ومصائره، بشبكة مصالحها التي تتقدم على المصالح الوطنية. وفي مثل هذا المنحى، يصير سهلاً تشييد السياسات على الفساد، الذي بات نظاماً، يتمتع بشرعية وقحة وصلت إلى حد ان اتهامها بـ «طلعت ريحتكم»، لم يثر فيها أي رد فعل سلبي، بل ان البعض اعترف بذلك، وكأن شيئاً لم يكن.

لا يمكن إحصاء ارتكابات هذه «الطبقة». سياساتها اجتياحية. لم تقف أي مؤسسة حاجزاً في وجهها. لا تستثني مصلحة أو وزارة، من دون أن تكون مرتعاً. الصحة، التربية، الأمن، البنى التحتية، الإنشاءات، الموانئ والمرافئ البرية والجوية، الأملاك العامة، السير ومركباته، الـ… الـ… كل ما يقع تحت سلطتهم بات ملكاً لهم، يتصرفون به وفق ما يدره من أرباح. زواج المال بالسياسة كان سباقاً. ثم، حدث زواج السياسة بالمال. كانت مجالس النواب، قبل الطائف، تحتضن تنوعاً اختصاصياً ووظائفياً. بعد الحرب، فتحت الأبواب امام تنسيب أهل السياسة إلى أصحاب المال والنفوذ… حُكمَ لبنان بعد الطائف، في الحقبة السورية ثم في «الحقبة السيادية»، بحلف المال والإقطاع والمذهب… الناجون من هذا الحلف، كانوا كثرة من الفقراء والمضطهَدين وأصحاب الكرامة والجباه العالية.

لقد كان تشومسكي على حق. القطيعة واجب سياسي. لا نفع في خدمة هذه الطبقة. تركها في أزمتها اليوم، استحقاق يجب أن تدفع ثمنه. «الحراك» يخوض معارك انتزاع حقوق، حقوق كل اللبنانيين، من كل السياسيين، فليدفعوا ثمن كارثة النفايات. فليدفعوا أثمان الأزمات التي ولدت وتربّت وشبّت على أيديهم.

ليس أمام «الحراك» حدود. أفق المطالب مفتوح. من قضية «جنسيتي» إلى «شطب الإشارة إلى الطائفة»، إلى تسجيل الزواج المدني، إلى قضية الأملاك والعقارات، إلى مسألة المستشفيات الحكومية المسلوبة والمستلبة، إلى… إلى… استعادة البلد وتحريره من محتلّيه.

المعركة طويلة، وتتوقف على حجم القوة وتأثيرها في الاشتباك السلمي، الذي أنتج حتى الآن، واقعاً جديداً لا تستطيع السلطة أن تأتي أمراً وتتخذ قراراً أو تنجز أمراً، لا يقع تحت رقابة «الحراك».

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى