مكاشفات

ثقافتنا بين الاستثمار والاستنكار

د. محمد الحوراني

من المؤسف أن ينظرَ البعضُ إلى الثقافة والفنون على أنها من الكماليات وأحياناً من سقط المتاع، وأنه لا علاقة لها بنهضة المجتمعات وبناء العقول وتأسيس الإنسان الواعي ورعايته منذ البدايات الأولى له مرورا بمرحلة الشباب وليس انتهاء بها،  هذه النظرة الدونية للثقافة والمثقف لا تقتصر على معظم السياسيين والزعماء وإنما تتعداها لتتحكم بقوة بأصحاب رؤوس المال والتجار في غالبية الدول ولاسيما الدول العربية و دول العالم الثالث، ذلك أن هذه الشريحة التي كدّست الأموال، في غالب الأوقات، من قوت الشعب ودمه، ليست على استعداد لتمويل أي مؤتمر أو مهرجان أو ندوة أدبية أو فكرية إلا بضغط من رجل السلطة أو توجيهه، وهذا لا يحدث إلا في حالات نادرة، ولا يقتصر الحديث في الاستثمار الثقافي على المهرجانات والندوات والحفلات الفنية الهادفة ومعارض الأزياء التراثية وربطها بالواقع والترويج لها بشكل صحيح وإنما يتعداها إلى غيرها ومنها، وفق الفرنسي ” بيير بورد يو”، المهارات والأذواق والملابس والسلوكيات والممتلكات المادية والمؤهلات، وما إلى ذلك من أمور يكتسبها المرء من خلال الطبقات الاجتماعية والمجتمعات عموما، وهو ما يحتاج إلى ابتكار أفكار جديدة تعالج بعض التحديات الاجتماعية والحياتية عبر استخدام ما يمكن من معارفَ وثقافةٍ وتطوّرٍ تقنيّ تماماً كما هو الحال بالنسبة إلى الصين وبعض الدول الأخرى التي استفادت من الذكاء الاصطناعي في تطوير الثقافة والاستفادة منها والاستثمار الفاعل فيها، وبالعودة إلى ” بو رد يو” يمكن اكتساب رأس المال الثقافي بشكل أساسي من خلال التعليم الأولي للفرد، الذي يتأثر لا شعوريا بالبيئة الاجتماعية المحيطة، وهو جانب لا يتم استثماره محليا وعربيا بالطريقة الصحيحة، لا من خلال المناهج التربوية والتعليمية ولا من خلال الإعلام والدراما والمسرح، لا بل إن المثقف والثقافة غالبا ما تقدّم بطريقةٍ أقلّ ما يقال فيها إنها غير لائقة، وخاصة دراميا، فالمثقّف إمّا معاق أو مخبر أو مختلّ عقليا، وهذا من شأنه أن يترسّخ في أذهان الناشئة والأطفال وأن يقدّم صورة مزيفة عن الثقافة والمثقف، وهو ما ينعكس لاحقاً على سلوك الأفراد عن طريق تصرفاتهم وأفعالهم من خلال وعيهم أو لا وعيهم، وهو ما يساهم إلى حد كبير بالإجهاز على ما بقي من ثقافة أصيلة وتدميرها بعد أن فعل التدمير الخارجي والحروب فعله فيها، كما هو الحال مثلا في الأماكن التاريخية والتراثية وغيرها من التراث المادي واللامادي الذي يحرص الأعداء على تدميره في كل الحروب التي تشنّ على دولنا بهدف تدمير تراثنا وتشويه تاريخنا وإرثنا الحضاري، وهو ما ينعكس لاحقا على المجتمعات بعد تقديم نموذج جديد من الثقافة يعتمد بشكل أساسي على التفاهة والضحالة من خلال أشخاص لا يمتلكون شروط الإبداع وموهبته، وإنما يقوم فعلهم على استغلال وسائل التواصل الاجتماعي وأصحاب النفوس الضعيفة ماديا وأخلاقيًا من أجل الترويج لما يعتقدون أنه ثقافة وإبداع. بينما يتمّ تجاهل الثقافة الأصيلة والفن الهادف علما أن هذا من شأنه أن يسهم بفاعلية في عملية التنمية الشاملة من خلال التركيز على العامل الثقافي الذي لا يقل أهمية عن العامل الاقتصادي إذا ما تمّ الاشتغال بشكل حقيقي على دمج البعد الاجتماعي للتنمية مع البعد الاقتصادي، وهذا يتحقّق من خلال إعادة الاعتبار للثقافة بصفتها أحد أهم روافد النهضة المجتمعية وركائزها.

آن الأوان لإعادة الاعتبار إلى الثقافة من خلال الاستثمار الثقافي إعلاميا ودراميا ومن خلال استغلال المواقع التاريخية والتراثية وتشجيع الابتكار وتعزيز التفاعل بين مختلف أبناء المجتمع، واعتماد التنمية الثقافية كمادة أساسية في المناهج التربوية والتعليمية وتعشيق البرامج التلفزيونية بفقرات ثقافية هادفة وبنّاءة تسهم في يقظة العقل وبناء الإنسان.

 

بوابة الشرق الاوسط الجديدة 

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على الفيسبوك

لزيارة موقع بوابة الشرق الاوسط الجديدة على التويتر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى