شرفات

ثلج عسال الورد الغدار: هكذا مات الناس من الثلج !

كانت أول محاولة قمتُ بها لكتابة رواية تلك التي تتعلق بثلج قريتنا التي تقع على هضبة عالية في جبال القلمون، وقد حملتْ الهضبة اسمها، فسجلت على الخارطة باسم هضبة عسال الورد ، وبينها القرنة السوداء صداقة جغرافية معروفة ، والقرنة السوداء أعلى قمة في جبال لبنان العالية.

لم أكن أتصور معنى الجرود إلا عندما قطعتها أنا وبعض الأشخاص في ليلة باردة، (ماتوا جميعاً وبقيت أنا وصديقي عماد الدين دبوسي منهم أحياء نستعيد تلك الرحلة)، فأمضينا نحو سبع ساعات مشياً على الأقدام نقطع الجبال المترامية كرحالة مبتدئين ، وكان ذلك عام 1979، وفي تلك الرحلة اهترأ حذائي، وأصيب وركي بألم شديد لا زال يذكرني بنفسه إلى اليوم حتى بعد مرور أكثر من أربعين عاما على تلك المغامرة.

لم تكن الثلوج قد هطلت بعد، وثلوج تلك الجرود عندما تهطل، لا يمكن احتمالها، فهي كثيفة تصل رقائقها إلى حجم الكف، وتدور حول الضحية، فتعميه وتخفي ملامح الأمكنة، فتدور الضحية في مكانها إلى أن تبتلعها العاصفة، فتجمد إلى أن يكتشف الآخرون الجثة عندما يغادر الشتاء وتشع الشمس لتذيب جبروت الثلج البارد.

جاءتني فكرة الرواية عندما مات ثلاثة مهربين من أقاربي قرروا عبور جرود القلمون إلى لبنان لنقل البضائع التي كانت تحقق ربحاً بسيطاً لهم في تلك الأيام، وكان التهريب عبارة عن عدة كروزات من السجائر الأجنبية، وأرطال قليلة شاي، وبعض أحذية البلاستيك!

وصل أولئك المغامرون إلى وادي يعرف بوادي كوكب، وهو يقع في منتصف الطريق، لكن ثلج ذلك الوادي يعرف بالغدار كما وصفه خالي ذات يوم، وفي قلب الوادي هاجمهم الثلج ، والثلج كما يقول خالي، الخبير بطبيعة الجرود، كائن مجنون يعمي البصر والبصيرة، ثم يلف ذراعيه الباردتين على الجسد ويكبله إلى الأبد!

دارت العاصفة حولهم، خدعتهم في البداية، فبدت كيدين سحريتين ترشقان الوجوه بالثلج الكثيف، ثم بدأت دورتها الوحشية، فراحت تغزل أكداساً من الثلج وتلفهم فيها كغطاء مرعب ، فإذا هم يضيعون عن بعضهم ، ويضيع عنهم البغل الوحيد الذي يرافقهم، ثم تبدأ عملية الطمر !

يتكدس الثلج بسرعة غريبة، فتراه وقد ارتدى صاحبه كغطاء سميك، ثم يرميه في زاوية من الزوايا، ويأمره أن ينتظر حتفه تحت وابل يرتفع رويداً رويداً، فيغمره حتى رأسه، وهو يحلم بدفء إلهي ينقذه من لحظة الموت تلك!

عرف سكان القرية أن الرجال الثلاثة علقوا في وادي كوكب، فانطلق كثيرون عند الصباح يبحثون عنهم بكل الوسائل الممكنة من جرارات وأحصنة وبغال، إلى ترامى من بعيد صوت البغل الذي كان معهم ، فعرفوا أن البغل لم يمت بعد، وشرعوا يبحثون عن أجساد متجمدة في مطمرة الثلج المهولة، وأخرجوهم وقد جمدوا وهم يبتسمون سخرية من مهنة التهريب اللعينة التي تصيب أهالي المناطق الحدودية في كل العالم.

وجيء بهم إلى القرية، ليدفنوا وسط نحيب مكتوم يحتج على الأقدار التي أخذتهم إلى وادي كوكب لتسوق سجائر مهربة وشايا وأحذية بلاستيكية !

لكن مأساة العراقيين العشرة كانت أكبر، وكانت حديث سهرات الليالي الباردة التي استعادت الحكاية الأولى كقدر حتمي يأخذ الناس إلى مصائرهم، فقد نُقل العراقيون العشرة إلى ساحة القرية، وسجّوا فيها ، وكان منظراً محزناً ، وفي أحد تفاصيله جثتان لرجل عراقي يحتضن ابنه وقد تجمدا في لوحة حزينة لايمكن أن تنساها ذاكرة عسال الورد !

بوابة الشرق الأوسط الجديدة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى