ثورة تونس المحبطة تنتفض: المعركة ضد الفساد

تتعالى أعمدة الدخان في العديد من ساحات المدن في غرب تونس، ويتجمهر الآلاف من الشباب الغاضبين في الميادين مواجهين عناصر أمنية تطلق الغاز المسيل للدموع.

هو مشهد يعيد إلى الأذهان الأيام الشاقة للثورة التونسية في كانون الأول العام 2010، وسط مخاوف عميقة من انفلات الوضع الأمني في مواجهة الإرهاب، ومن أطراف مندسّة تريد استغلال الغضب الشعبي للقيام بأعمال إجرامية.

هل هي بوادر ثورة أخرى في تونس؟

«كلا، ليست ثورة جديدة، هي محاولة لتحقيق أهداف الثورة»، يقول نصري (29 عاماً)، خريج حقوق، لـ «السفير»، وهو أحد شباب مدينة القصرين التي كانت مهد الثورة التونسية، وأكثر المدن التي قدمت ضحايا في الأيام الأخيرة لنظام زين العابدين بن علي. يضيف نصري: «لقد ثرنا على الفساد والظلم، وقدمنا صدورنا للرصاص، وأطحنا النظام الفاسد، فإذا بالفساد يتضاعف، وإذا بوجوه الفساد التي نعرفها تستعيد دورها»، قبل أن يضيف «لقد عادوا… ولذلك عدنا إلى الشارع».

عاد الشباب الغاضبون إلى الشارع مدفوعين بمشاعر إحباط عميق وخيبة مدمرة، حتى أن كثيرين منهم كانوا مستعدين لقتل أنفسهم انتحاراً، بسبب ما يسمونه من «غلبة الفساد وخيانة النخبة» على «مشاعر التغيير». الاحتجاجات الأخيرة، التي ذهب ضحيتها شاب في التاسعة والعشرين من العمر، انطلقت في مدينة القصرين، وشهدت في ما بعد مظاهر تعيد التذكير بأيام الثورة، بدءًا بمحاولات للانتحار الجماعي من فوق مبنى المحافظة، على طريقة الشهيد محمد البوعزيزي، وأعمال يائسة أخرى.

«الحضائر».. شرارة الغضب

الاحتجاجات لم تندلع هذه المرة بسبب البطالة وانسداد الآفاق، بل بسبب ما يسميه الشباب «التلاعب في قوائم تسميات انتداب عمال الحضائر»، أي اعتماد الرشوة والمسحوبية والعلاقات الخاصة لتثبيت المسجلين في قوائم «الحضائر» ليصبحوا موظفين حكوميين.

و«الحضائر» هي صيغة تشغيل هشة في المؤسسات الحكومية بأقل من الأجر الشهري الأدنى المضمون بالقانون، وتعتمدها الدولة التونسية منذ نظام بن علي، كحل مؤقت لامتصاص غضب الشباب العاطل من العمل، وخصوصا من متخرّجي الجامعات، واتسع نطاقها بعد الثورة كثيرا، في ظل غياب كامل لمشروع تنموي في المناطق الفقيرة في غرب تونس.

وعلاوة على ذلك، فإنّ ثمة قناعة، لها ما يبررها، في هذه المناطق الفقيرة، بأن منظومة الرشوة والمحسوبية قد عادت أقوى مما كانت عليه قبل الثورة، وأحيانا بنفس الأشخاص والأسماء، وأن دولة ما بعد الثورة عاجزة أو متواطئة مع الفساد. وفي المقابل، فإنّ النخبة السياسية تبدو منشغلة بمسائل هامشية. وعلى هذا الأساس، كان الشباب يشاهد كيف يتفرغ الإعلام منذ نصف عام لتفاصيل عراك زعامات حزب «نداء تونس» بعد فوزه بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، وتفاصيل الفساد السياسي الذي يختلط بالفساد المالي، فيما وضعه يزداد سوءاً.

وأمّا الحكومات المتعاقبة منذ الثورة، فلم تتجاوز مرحلة تصريف الأعمال، في ظل غياب «مشروع مارشال» وطني يليق بما بعد الثورة، وانتشار وتضاعف الفساد والمحسوبية وغياب المحاسبة.

«فساد منظّم»

والى جانب مسألة التلاعب بقائمة المرسّمين للعمل في الوظيفة الحكومية، كان هناك سخط في مدينة القصرين بسبب تحويل وجهة عدد من «الدراجات الهوائية» المخصصة للتلاميذ الفقراء إلى مسؤولين محليين، وتفشي الفساد في مسائل حكومية أخرى كثيرة، في إطار ما يسميه الناشطون الحقوقيون «الفساد المنظم»، وثمة اعتقاد راسخ لدى الشباب أن مساعدات حكومية ودولية كثيرة توجه إليهم، ولكنها تذهب الى المسؤولين المحليين وحلفائهم من المتنفذين، «بطريقة أسوأ مما كان يحدث في زمن بن علي»، بحسب ما يقول نصري، الذي يوضح ان «بعض هذه المساعدات تظهر للبيع في الأسواق الموازية بعد بضعة أيام من وصولها». ويضاف إلى ذلك أن مسألة التوظيف في قوائم «الحضائر» ارتبطت بالفساد، وثمة موتى وموظفون في الدولة ومواطنون في المهجر يحصلون شهريا على أجور باسم تشغيل الشباب العاطل من العمل.

فضائح كهذه، انفجرت في وجه كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، ولكن أحداً لم يواجه هذا الفساد بطريقة جدّية. الخلاصة أن ثماني حكومات تعاقبت على تونس ما بعد الثورة لتتوافق كلها على ترحيل المشكلة.

«… ولذلك عدنا»

كانت مسألة التلاعب بالتسميات في الوظيفة الحكومية شرارة إطلاق نار غضب مكتوم منذ خمسة أعوام بسبب مشاعر الخيبة والإحباط. يقول المحتجون: «لقد أسقطنا رأس النظام، لكن جثته ما تزال حية… ولذلك عدنا». ثمة علامات كثيرة على تكرار ما حدث قبل هروب بن علي وانهيار نظامه، لكن مع فوارق واضحة تستحق الاهتمام، فقد تطور خطاب الشباب الغاضب من إطاحة النظام، إلى مواجهة الفساد الذي يمثل جسم النظام أو «الدولة العميقة» كما يسميها البعض، كما أن وزارة الداخلية أصبحت تساند مطالب المحتجين وحقهم في التظاهر السلمي. وفي هذا الإطار، قال مسؤول رفيع المستوى في وزارة الداخلية لـ«السفير»: «نأمل تفادي استدراج عناصر الأمن إلى المواجهات العنيفة مع الشباب ومحاصرة العناصر المخربة».

ويقول ناشطون حقوقيين إن نقابات الأمن، التي تنظم منذ قرابة أسبوع اعتصامات احتجاجية متواصلة أمام المقار الأمنية للمطالبة بتحسين أجور عناصر الأمن وظروف عملهم، لا ترغب في أية مواجهة قد تنتهي بإصابات أو قتلى لأنها تطلب مساندة الرأي العام لمطالبها، وهو ما يفسر ارتفاع الإصابات وسط عناصر الأمن التي بلغت، حتى مساء امس، 43 اصابة، بحسب مصادر رسمية.

وعي شبابي.. ومندسّون!

لا أحد يستطيع أن يتكهّن بالآفاق التي ستبلغها التظاهرات الأخيرة، بالرغم من كونها بلا رأس ولا قائد ولا حزب أو لا توجه سياسياً واضحاً لها، تماما مثل بدايات ثورة كانون الأول 2010، ولكنها تعرف طريقها جيدا: مقاومة الفساد والمحسوبية والإفلات من العقاب.

ولا بد من الإشارة الى تطور وعي الشباب بعد خمس سنوات على الثورة الأولى، فصار يتحدث عن الشفافية في الحكم، ومحاسبة المسؤولين عن الفساد، والحكم الرشيد، وثروات الجهات (المناطق)، العدالة الجبائية (الضرائب)، وهي عبارات يكررها شباب بعضهم لم يحصل حتى على شهادة الثانوية العامة، لكنهم يدركون جيداً أن المسألة تتعلق بمعركة شعبية ضد الحكم الفاسد، أيا كان الحزب الذي يقف وراءه بعد انتخابات شرعية ونزيهة، وأن السياسيين كلهم متشابهون: «يعدوننا بالجنة ثم يحتفظون بها لأنفسهم ولأهاليهم وأصدقائهم ونبقى نحن في الجحيم»، كما قال لـ «السفير» ناشط حقوقي في مدينة الكاف التي انضم بعض شبابها إلى حركات الاحتجاج.

بقي شيء وحيد يتحدث عنه الجميع، ولا أحد يقدر على إعطائه معنى، وهو ظهور أشخاص مشبوهين يوزعون مبالغ مالية على مندسين في تظاهرات الغضب.

ويقول رئيس جمعية «أمل للتضامن والتنمية» في القصرين السيد محمد الطاهر الخضراوي إنه شاهد أشخاصاً مشبوهين يستقلون سيارات ويوزعون أموالا على بعض الشباب المشاركين في التظاهرات، في مقابل أعمال عنف وإجرام تستهدف الممتلكات العامة والخاصة.

وفي هذا الإطار، يتساءل ناشط من مدينة القصرين ممن اقتحموا مقر الولاية (المحافظة) وأجبروا الوالي على المغادرة، في حديث الى «السفير»: «ما مصلحة العاطلين من العمل، والمطالبين بالتشغيل والتنمية، في إتلاف وثائق الدولة أو تدمير ممتلكاتها؟»، قبل أن يضيف «ما حدث في ثورة كانون الاول 2010 يكرر نفسه، فبعد عزل أحد المسؤولين المحليين، قرروا تشويه ثورتنا على فسادهم بدس عناصر إجرامية».

في هذه الأثناء، تحبس تونس كلها أنفاسها في انتظار الآتي، فالجميع يعلم أن الغضب بلغ مداه، وأن شباباً لا يتردد في إحراق نفسه قد يقدم على أي شيء آخر أكثر فداحة في ظل مخاوف جدية من أن تستغل الخلايا الإرهابية المتربصة بالبلاد مثل هذا الوضع الهش لتنفيذ أكثر أعمالها الإجرامية عنفا.

«إنه فشل للنخــبة الســياسية إزاء المطالب الحقيــقية للوطن. الآن نــتذكر أن الثورة لم تكن ضــد بن نظام بن علي، بل ضد عقلية الفساد في النظام، وهي كامنة فينا»، يقول لـ«السفير» أحد الشــباب الذين نقلوا الاحتجاج إلى شارع بــورقيــبة، قــبالة وزارة الداخلــية، رمز السلطة في تــونس والعالم العــربي. قبل أن يضــيف: «لقد عادوا إلى الفساد… فهــا قد عدنا إلى الشارع».

وبرغــم ذلك، لا تزال الحكومة التونسية تبدع في «فــن الصمت في الأزمات»، في ظل غياب رئيس الحكومة، المدعو إلى منتدى دافوس لكبار صناع القــرار الاقتصادي في العالم. البعض يقول إن الدعوة هي من أجل المزيد من التــنازلات في مقــابل المزيد من القروض، في ظــل وضــع اقتصادي بلا أفق واضح، بما يؤجــج المزيــد مــن الغضب في غرب البلاد، إذ لا يكــفي استمرار غياب التنمية، حــتى يضاف إليه المزيــد من الديون الدولية، التي يدفع ثمــنها الفقراء وحدهم!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى