«جامع أعقاب السجائر» بين البطولة والسقوط الأخلاقي
«جامع أعقاب السجائر» (الفارابي) ليست باكورة منير الحايك، إذ صدرت له قبلها ثلاث روايات، ومن يعُد إليها، يدرك أنّ منيراً روائيّ حقيقيّ جدير بالتقدير. العنوان إشارة إلى أمرين: الأول مرتبط بالفئة الاجتماعية التي ينتمي إليها ذلك الجامعُ، والثاني متعلّق بمرحلة زمنية عاشتها بعض الأرياف اللبنانية في ستينيات القرن الماضي. وإذا كان ذلك الجامعُ مراهقاً في أول عهده بالمراهقة مشمولاً بمركبات النقص التي تراوح بين عجز المراهق الريفيّ الفقير عن التشبّه بالمراهق الغني من جهة، ومحاولته إثبات حضور الذات من جهة ثانية، فإن الانتماء إلى فئة الفقراء في مرحلة من حياة الريف اللبناني، حيث غياب توافر المشتهَى من المأكل والملبس، يدفع بالمراهق الريفي الفقير إلى مسارات غير سويّة في أحيان كثيرة. وإذا تجاوزنا العنوان المحرِّض على قراءة النصّ، اعترضنا الإهداء الوجيز الذي توجّه به منير إلى كيانين مختلفين يحملان الاسم نفسه «إلى يافا ابنتي، والمدينة». وإن يطلق منير اسم يافا على ابنته، يعني أنه يلفت انتباهنا إلى أمرين: إلى همِّه المتعلق بتحرير فلسطين، وإلى اهتمامه بالقضية المشتبكة بذلك التحرير. وهذا طبيعي من منير الملتزم بالقضية القومية الأولى والكبرى، وذلك الالتزام الذي يمليه عليه انتماؤه العقديّ.
والإهداء ليس أمراً عابراً يحاول صاحبنا من خلاله إرضاء هذا الصديق أو ذاك القريب. سيجد القارئ نفسه مستوقفاً مع كل خطوة يخطوها داخل الرواية. خيوط ثقافةِ منير العقدية، تحيك الزمان كما تحيك المكان، وترسم الشخصيات وانشدادها إلى كل حدثٍ، صغيراً كان أم كبيراً. فلا انفصال للحدث عن كل معلمٍ زماني أو مكاني بقطعِ النظر عن مقداره أو مساحته.
ويبقى أن أول ما يستوقفنا في هذه الرواية، أنها رواية مشكليّة. ليس لأن القارئ لا يستطيع امتلاك مفاتيحها من القراءة الأولى، وعليه أن يعيد القراءة مرتين أو ثلاثاً، ولكن، لأنّ كلّاً من بناء الزمان وبناء المكان وبناء الشخصيات هو بناء مشكليّ. فأنت لا تستطيع تخليص زمان الرواية من تفاوت الأزمنة وتداخلها إلا بصعوبة. صعوبة تدعوك إلى تخليص زمان مصطفى (البطل)، من زمان مصطفى جامع أعقاب السجائر، أو زمانه في السجن من زمانه في محاولة تهريب الكبتاغون. أضف إلى كل ذلك اشتباك زمان علاقته بأحمد وعبد العظيم مع زمان علاقته بآغوب الأرمني. تجد الأمر المشكليّ نفسه إذا حاولت الوقوف أمام الاشتغال العامليّ في الرواية. فأنت لن تجد معالم واضحة تعطي العامل/ الذات خصوصية واضحة بيِّنة، أو تؤطِّر العامل/ الموضوع حول رغبة يسعى مصطفى إلى تحقيقها. وإذا كانت الذات مشكليّة، فإنّ موضوع الرغبة مشكليّ أيضاً، ولا يستطيع الإفلات من المشكليّ، خصوصاً في أثناء بحثكَ عن العوامل المساعِدة، أو تلك المعرقِلة في أثناء العمل لتحقيق الرغبة. وقلِ الأمرَ نفسه بالنسبة إلى العاملين: المرسِل والمرسَل إليه. ويبقى سؤالٌ مبدئيّ: هل يستقرّ بنا المآل عند هوية ذات خصوصية ثابتة تتعلق بالهوية النفسية، أو الاجتماعية، أو الأخلاقية؟
لا نجد هوية نفسيّةً ثابتة لمصطفى، ولا هوية أخلاقية. تتعلق مسألة أعقاب السجائر بمركّب نقص نفسيّ مزدوج. يتجلّى الأوّل بمحاولة المراهق استباق الزمان، فالذين بلغوا سنّ الرجولة بالنسبة إليه يملكون القرار. ويقدّمهم هذا ذوي شخصيات قوية تفرض نفسها، فيحاول المراهق تعويض هذا النقص بالتمثّل بالكبار من خلال التدخين. وإذا كان لا يملك القدرة المالية التي لا تخوّله شراء السجائر التي تبوّئه مقام الأكبر منه سنّاً، يتغاضى عن ذلك بجمع أعقاب السجائر وتحويلها إلى سجائر صالحة للتدخين. ولا يؤهله ذلك للتشبّه بالأكبر منه سنّاً فقط، ولكن يؤهّله للتشبه بالمراهقين من أولادِ الأغنياء القادرين بما وُضع بين أيديهم من نقود على شراء السجائر من الدكاكين. ففارق السنّ والفقر شكّلا عند المراهق المنتمي إلى قعر المجتمع، مركّب نقص مزدوجاً كما رأينا.
وإذا حُلَّت عقد النقص المتعلّقة بثمن شراء السجائر عندما بدأ مصطفى العمل، فإنّ عقدة ثانية لم تُحلّ، فالتشبّه بمن يكبرونه سنّاً بوصفه مراهقاً، لا تتعلق بالتدخين وحده، بل تتعلق بظهور الشاربين والعارضين. وتأتي سرقة شفرة «الناسيت» من ممتلكات خاله لتحلق الوبر وتحوّله إلى شعر يزيّن الوجه ويقدّمه شابّاً يمتلك علامات الرجولة. وإذا عوّض النقص على حساب الهوية الأخلاقية التي تضررت وسقطت في تجربتَي سرقة السجائر في البداية والشفرات أخيراً، فإنّ الرغبة الجنسية وارتياد البارات حيث النساء اللواتي يتاجرن بأجسادهنّ قد ألحق الضرر بهويته الأخلاقية أيضاً. فسرقة «سطول الدهان» التي كانت توضع بحوزته أثناء عمله في دهن الجدران والأبواب، هي سقوط أخلاقي سببه الرغبة الجنسية.
مهما يكن من أمر، فإنّ هوية مصطفى النفسية ظلّت فاعلةً تلاحقه معاناتها بعد مرحلة التخلّص من مركّب النقص، ومن استيعاب الرغبة الجنسية، ذلك أنه بعد خروجه من السجن القضائي، ظلّ سجين المنزل يعاقب نفسه بسبب ما ارتكبه سواء أتعلّق ذلك بشهادة الزور أم تعلّق بغير ذلك.
ومهما يكن من أمر، لم يبقَ مصطفى أسير سجنه. أتاحت له الحرب الأهلية التي استعرت في لبنان عام 1975، أن يصبح بطلاً عندما وضع صدره في مواجهة أسلحة المتعصّبين طائفيّاً دفاعاً عن عائلة مسيحية أراد لها أولئك المتعصبون القتل والتشريد. يبقى أنّ «جامع أعقاب السجائر» رواية غير عادية قادرة على شدّ القارئ إلى عوالمها، فلا تفلته حتى يستكمل قراءتها برغبة جامحة.