جدّي يخترع جبلاً

 

صعد رجل سئم المدينة إلى جبل عالٍ لكي يعاين الوضع هناك، كيف البرد، وكيف تتشكل الغيوم، وما الذي يجعل قمة الجبل مهيبة إلى هذا الحد، ومغرية، في كل بلدان العالم للتسلق؟

هطل ثلج غزير، استمر أياماً، فانقطع الطريق، ولجأ صاحبنا إلى كهف، وأكل أعشاباً بعد نهاية زوادته. وفي إحدى الليالي جاءه، في منام عسير ومتجمد من البرودة، رجل وقال له احفر في زاوية الكهف وسوف تجد كنزاً.

ظل الرجل يحفر أياماً. ولم يجد شيئاً سوى البرد. ثم جاءه، في منام عسير آخر، الرجل نفسه وقال له ابنِ من أحجار الجبل ضريحاً فوق ما حفرت وضع قميصك الأزرق فوق شاهدة القبر.

بنى الرجل الضريح. وذات يوم مر به رعاة ماعز جبلي وسألوه عن الضريح فأجاب، وقد خطرت له فكرة، إنه لناسك مر من هنا للانقطاع إلى العبادة، ومات وهو يرفع يديه الطويلتين حتى لامست الغيوم، فهطل الثلج ومات بين يدي… ودفنته.

ذبح الراعي جدياً، وأشعل ناراً وشوياه… وظل دخان اللذة يتصاعد إلى الغيوم، في هيئة يدين مرفوعتين نورانيتين.

هبط الرجل الذي سئم المدينة إلى المدينة. وشاعت قصته وابتدأ اليائسون والمحزونون، وذوو العاهات في مسالك الحياة… يتصاعدون كأيدٍ إلى الجبل وأذرع مرفوعة نحو الغيوم.

بنى الرجل أكواخاً. ورمم المغارات هناك ووضع فيها فرشاً ووسائد، ومناقل للتدفئة. ثم بنى مطعماً… ثم شق طريقاً للجمال والبغال أولاً، ثم للسيارات لاحقاً. فتح متجراً وأكشاكاً لبيع الخرز الملون، والقلائد المقدسة. ثم اخترع مكاناً يختلي فيه زوجان يريدان الإنجاب بعد عقم مستديم…

ابتدع أساطير وألف قصصاً. وكلّف كتاباً بجمع حكايات القديسين والأولياء الأولين. وطبع منها الآلاف. هكذا صار جبل وحيد مستوحش بارد منفي صامت… صار سلماً إلى الله.

جيلاً وراء جيل توارث الأبناء والأحفاد عادات الصعود إلى الجبل… وكان الضريح يلبس، جيلاً وراء جيل قمصاناً زرقاء، حتى غدا ضخماً من شدة التكدس، قماشاً فوق قماش.

ذات يوم صعدت إلى الجبل (رجلاً سئم المدينة) رافقتني فتاة لا تريد الحمل وليست عقيماً… كانت تريد الحب وهناك بين أزهار صمدت لعصور من البرد، وشجيرات صعدت في عصور من البرد… وتحت صخرة تلجىء اثنين، قلت لها، حاولت أن أقص لها، حكاية جدي القديم الذي سئم المدينة ذات يوم… وانشأ يوما وراء يوم، أسطورة هذا المكان، جدي الذي أسس مملكة النساك المبجلة، تلك التي يؤمها المذعورون ومكسورو الأجنحة، وطالبو شيء ما.

هناك… قلت لفتاتي: أنا من هذا الارتفاع… أعلن عليك الحب. والآن، تعالي نهبط إلى أول الأرض… نقضم تفاحتنا هناك.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى