“جرح البوح” نزيف الكتابة

 

 “جرح البوح” هو نوع من الكتابات العتابية نحو ما يشاهَد من أشياء غير متوقعة بإزاء ما نحب، استنكار لأفعال ما كان لها أن تقع نحو ما نحب و”جرح البوح” الصادر عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان للكاتبة جليلة الجشي، هو مجموعة من المقالات أو الشهادات التي دونتها الكاتبة من الحياة التي يعيشها الإنسان الفلسطيني، أو تقول إنها يوميات الكاتبة عن المدن والمواقف التي رصدتها على امتداد صفحات الكتاب عن الشباب والمرأة والأطفال الذين كانوا ضحايا الاحتلال، وضحايا إدارات لا مسؤولة.

هي مقالات تندرج تحت عنوانين، الأول إصلاحي، لأنه يؤشر على الخطأ، ويبقي الإجابات مفتوحة لوعي الآخرين، وكتب بمشاعر الأنثى/ الأم، بلغتها الرقيقة وعواطفها الجياشة، وحميميتها وفائض محبتها، التي يمكن معها استعارة مقولة النفري بتحوير بسيط، “الكتابة التي لا تؤنّث لا يعول عليها”.

في العنوان الذي اختارته جليلة للكتاب الذي يقع في 186 من القطع الوسط “جرح البوح” تتألم بصمت، وهي تمسك بجمر التجربة وتطوي الشغاف عليها، وهي تدرك أن هذا البوح ليس سوى نزيف، لأنه يلامس القلب تقول الجشي: “أكتب لعيون الوطن الجريح ولهموم الإنسان الفلسطيني الذي تورمت عذاباته وشمس الحرية الغائبة عن سماء الوطن.. أكتب للحب الصادق، للعاشقين وأرسم بالكلمات معاناة شعب قدره أن يحيا على أرض يقاسمه فيها الجراد ويقارع الظلم والظالمين”.

ولا يتوقف البوح عند الكاتبة على ما ترى من مشاهدات بل تمزج بين الهم العام والخاص، فالإطار العام الذي يتصف بالضبابية واللاوضوح والتعقيد لا بد أن يترك ظلاله على العلاقات الإنسانية ويشوهها، وهي الظلال التي تنعكس على الكاتبة نفسها التي خرجت منها “جريحة” ولم تشأ أن تستمر الوجع فنأت بذاتها بعيدا عما يذكر بالجرح.

وتقول في “لأننا نحبهم بلا حدود.. رحلنا”، نهرب بعيدا عن أغلى الأحبة، أولئك الذين سكنوا قلوبنا وعقولنا وعيوننا وأجسادنا وذاكرتنا ودفاترنا، وتربعوا فوق عروش قصائدنا كي لا يلامسهم غبار تراكمات همومنا وأحزاننا، وكي نختصر عليهم منغصات غيرتنا عليهم. نختار الاختفاء من حياتهم التي لم تكن جزءا منها، ليعيشوها كيفما شاءوا، وليسعدوا مع من اختاروا، فنغادرهم بصمت، ومثل فلذات أكبادنا نظل نشتاق إليهم ونخاف عليهم، لتبقى ذكاهم مغروسة في أعماق ذاكرة لا تعرف الخيانة”.

وعن مساحات الكتابة ومرجعياتها تقول: المرأة حينما تكتب تميل إلى وصف التجارب الإنسانية والعاطفية، وتقلع عن صمتها.. ولكن بحذر بالغ لأنها حين تتجرأ بالسرد والوصف سواء كان من وحي الخيال أو من وحي الواقع قد تشعر بالخجل من أن ما تكتبه يكون غير مقبولا من المحيطين بها أو من المجتمع ككل. وتضيف في كتاباتي أتقمص شخصية الكائن الحبري (الوهمي) الذي أكتب عنه، تماما كالممثل الذي عليه أن يتقمص شخصية الدور الذي سيقوم به ليتقنه تماما وليجعل المشاهد كأنه أمام شخصيات حقيقية وقصة واقعية إلى حد أنها تبكيه أحيانا وتفرحه أحيانا أخرى، وأحيانا أنقل في قصصي القصيرة أحداثا حقيقية لوقائع حدثت على أرض الواقع.

وتقول: بخلاف الرجل الذي حينما يكتب فلا ضير عليه أن يكتب بلا تحفظ وبكل حرية وجرأة وبلا قيود مجتمعية تحول بين قلمه وكل ما يدور في ذهنه، فله الاستقلالية الفكرية التي لا حدود لها. فالرجل نرجسي إلى حد ما ولا يراقب المرأة من منظور إنساني وأحيانا يتقمص صورة الضحية وكثيرا ما يكتب بهويته الذكورية المتسلطة وبأفكار متطرفة بعيدة كل البعد عن الحقيقة؛ فهو لا يغرق ولا يغوص في سبر غور المشاعر لينقلها كمل يجب.

فالمرأة تكتب بهويتها العاطفية والإنسانية لا بهويتها الأنثوية والرجل يكتب بهويته الذكورية المتعددة الأوجة بعيدا عن العاطفة والنظريات النسائية.

في الكتاب الذي يتنوع بين المقال والنص والحكمة المختارة والقصة واللقطة الفوتغرافية والحكاية، والومضات المختارة، والوصية..، تكتب المؤلفة بعفوية التداعي الذي لا يخلو من الشعرية التي تمنحها الأنثى المكلومة بالغربة والاغتراب لصوت النص الذي يفيض بالشجن الخافت وأحيانا الصراخ ولا تقف الكاتبة الجشي في مقالاتها عند ما يجري في فلسطين بلدها وحدود جغرافيتها، وإنما تصور الظلم حيثما وجد في جهات الأرض، فالألم واحد، و”كل غريب للغريب نسيب”.

يشتمل الكتاب على عدد من العناوين، منها: “معبر قلنديا.. معاناة مستمرة”، “أنا أستحضرك لا أرثيك”،” على جسد ورقة”، “شهداء الجوع في مخيم الأحزان”، “إلى غزة”، ومنها: “يا صابرة يا طاهرة، يا أغنى من ساكنات القصور.. تراب الوطن الذي يعفر وجهك وثوبك أجمل من كل المساحيق، وأنبل من كل النبلاء”.

كما يشتمل الكتاب على: “من يوقف جرائم ما يسمى غسل العار”، “إلى روح الضحية آية برادعية”، “كذبة الأحلام”، وتقول: “لماذا حينما نرحل عنهم لنريحهم من إلحاح أشواقنا لقربهم يصمتون ويتركوننا نذوي؟”. ومن الموضوعات: “اليوم سأبدأ الحياة”، “الحزن الجميل”، “نحبهم ولكن” و”المشهد الأخير”.

وتكشف عن تجربة هي الأولى في الرواية، معربة عن أملها تبذخ في البوح في تفاصيل فصولها. وتقول “لأن الرواية تخضع لشروط عديدة يجب ألا تكون أحداثها سطحية وبلا هدف كما أن الحبكة يجب أن تكون مدروسة تشد القارئ، وآمل أن أنجح في تلك التجربة التي أقبلتُ عليها بحب ليقرأها الناس بشغف”.

صدر للكاتبة جليلة الجشي: “ثرثرة الأيام”، “نم أيها الموت“.

 

 

ميدل إيست اون رين

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى