جرس «داعش» الذي تردّد في مصر

حين يتردّد اسم «داعش» في الفضاء المصري ونكتشف أن سيناء أصبحت بؤرة لتفريخ الإرهاب، فذلك مما لا ينبغي غض الطرف عنه أو التهوين من شأنه.

(1)

ما خطر ببالي يوماً ما أن أقرأ في صحف الصباح عنواناً يقول إن «داعش يرسخ وجوده في القاهرة» أو أن «داعش ينقل المعركة إلى قلب القاهرة بتفجير مقرّ أمني». لكن هذا الذي لم يخطر على البال صار حقيقة، ذلك أن العنوانين السابقين أبرزتهما صحيفتا «الحياة» و «الشرق الأوسط» يوم الجمعة الماضي 21/8. إذ الواضح أنني لم أكن الوحيد الذي فوجئ بالخبر، وإبرازه على الصفحة الأولى للجريدتين اللندنيتين دالٌّ على ذلك. فقد درجنا على أن نقول في كل مناسبة إن مصر ليست العراق وسوريا أو ليبيا، وبرغم أني ما زلت على يقين من ذلك، إلا أنني لا أخفي أن ذلك اليقين اهتزّ قليلاً وأصبح نسبياً، بعدما اقنعتنا تجارب عدة بأن الكثير مما لم يكن معقولاً وغير مقبول، صار كذلك بفعل عوامل عدّة خلخلت الثوابت، فقلبت المعادلات وغيّرت القناعات، بحيث ما عاد اليقين بالرسوخ الذى كان عليه في السابق.

الخبر الذي نشرته صحيفة «الحياة» واحتلّ رأس الصفحة الأولى ذكر أن جماعة «ولاية سيناء» الفرع المصري لتنظيم «داعش» باتت لها مواطئ قدم في العاصمة، بعدما تبنت الهجوم على مقر جهاز الأمن الوطني في شمال القاهرة. وهو المعنى ذاته الذي كرّرته صحيفة الشرق الأوسط. إلا أن صحيفة «الشروق» الصادرة في اليوم ذاته (22/8) أضافت معلومات جديدة حول التفجير. فذكرت أن مصادر أجهزة وزارة الداخلية تشتبه في أن أحد ضباط الجيش المفصولين هو الذي قام بالعملية، إذ ذكرت ان الصور التي التقطتها الكاميرات لعملية التنفيذ بيّنت ان مواصفات الشخص الذي قاد سيارة المتفجرات تكاد تنطبق على الضابط السابق عماد الدين عبدالحميد الذي سافر إلى سوريا بعد فصله من القوات المسلحة، ثم عاد إلى مصر منذ أشهر عدة. ويُعدّ الآن أحد مساعدي ضابط الصاعقة المفصول هشام علي عشماوي الذي انفصل عن جماعة «أنصار بيت المقدس» وأسس تنظيماً باسم «المرابطون». ومن مساعديه الضابط سابق الذكر وآخرين لم تتحدّد هوياتهم منهم محمد فتحي النخلاوي وأشرف حسن الغربللي وتامر العزيري قائد خلية «أنصار بيت المقدس» بمحافظة القليوبية. وفي حين فهم أن هؤلاء جميعاً من المصريين، إلا أن تقرير «الشروق» نقل عن المصادر الأمنية قولها إن جهات ومخابرات أجنبية ساهمت بشكل كبير في العملية، لان الجناة لم يستغرقوا أكثر من خمس دقائق لإيقاف السيارة المفخخة وتفجيرها والهرب من المكان. وهو ما يشير إلى أنهم تلقوا تدريباً قوياً ولديهم لياقة بدنية هائلة.

(2)

حين يصبح لـ «داعش» حضور قوي في سيناء، وتظهر إلى جوارها جماعة «المرابطين»، ويظل لتنظيم «القاعدة» حضور هناك، إلى جانب تنظيم «أجناد مصر»، فإن ذلك لا بد أن يثير اهتمامنا، وينبهنا إلى أن سيناء أصبحت تعج بالتنظيمات الإرهابية، وأنها أصبحت معملاً لتفريخ تلك التنظيمات. وهو ما يستدعي العديد من علامات الاستفهام، لأننا نفهم ان للقوات المسلحة والشرطة سيطرة كاملة على شبه الجزيرة، وأن حملات ملاحقة التنظيمات والبؤر الإرهابية مستمرة منذ سنتين، وطائرات اف 16 والأباتشي تمسح سماء المنطقة طول الوقت وتلاحق الإرهابيين في كل مظانهم. وسوف تلاحظ أن الجماعات التي تتمركز في سيناء أكثر وأخطر من مثيلاتها في بقية أنحاء مصر، كما أن الجهد الذي يبذل في الملاحقة هناك أضعاف أضعاف نظيره في الدلتا والصعيد. ومع ذلك، فإن عملية التوالد وتفريخ التنظيمات الجديدة لم تتوقف، وأصبحت أنشط في سيناء منها في بقية أنحاء البلاد.

هذه الخلفية تثير السؤال التالي: لماذا أصبحت سيناء بمثابة معمل تفريخ للجماعات الإرهابية برغم الملاحقات الأمنية الكثيفة، وبرغم الإجراءات التي اتخذت لتهجير بعض الأهالي ومراقبة الأوضاع وتقييد الحركة وحظر التجول فيها؟

ما نعلمه أن سيناء تنتشر فيها الظاهرة السلفية التي بدأت دعوية وتطورت بمضي الوقت، خصوصاً بعد احتلال إسرائيل لها في العام 1967 بحيث أفرزت تياراً تحدّى الاحتلال وتبنّى نهج السلفية الجهادية. وبرغم أن «الإخوان» كان لهم وجودهم في شمال سيناء، إلا أن السمة السلفية ظلت غالبة. تيار السلفية الجهادية كان أقرب إلى تنظيم «القاعدة» وجماعة «الجهاد» في مصر التي برزت في الثمانينيات. ومن عباءة السلفية الجهادية خرجت جماعة «التوحيد والجهاد» التي تأسست العام 2001 ويُقال إن مؤسسها طبيب أسنان سيناوي هو خالد مساعد. وقد قامت عناصر الجماعة بعمليات عدة ضد إسرائيل تمثلت في مهاجمة الفنادق التي تستقبل سياحها في عامي 2004 و2006. وفي وقت لاحق أصبح للجماعة اسم آخر هو «أنصار بيت المقدس»، التي ظلّت على ولائها لأفكار «القاعدة»، وعلى موقفها من تحدّي الإسرائيليين. وعبرت عن ذلك بتفجير أنبوب الغاز الموصل إلى إسرائيل أكثر من 16 مرة. وينسب إليهم انهم اطلقوا بعض الصواريخ على إسرائيل أثناء عدوانهم على غزة. وأثناء حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك وطوال حكم المجلس العسكري ورئاسة الدكتور محمد مرسى، أي إلى العام 2011، ظلت عمليات «أنصار بيت المقدس» مقصورة على سيناء، ولم يكن لها نشاط ملحوظ في بقية أنحاء مصر. وإنما يذكر أنهم توسّطوا لإطلاق سراح بعض جنود الجيش المختطفين أثناء حكم الدكتور مرسي. وتمّ كذلك في صفقة تم فيها إطلاق سراح بعض المعتقلين السيناويين. ومع ذلك، فإن الملاحقة الأمنية لعناصرها في سيناء لم تتوقف، الأمر الذي ألقى بذور ثارات نمت بمضي الوقت وانتهت بتمدد نشاط «أنصار بيت المقدس» في الدلتا والقاهرة. وبرز ذلك بوجه أخص بعد عزل الدكتور محمد مرسي في العام 2013. وحين حدث ذلك فإن الإجراءات الأمنية لم تتوقف ضد تجمعات «الأنصار» في سيناء، الأمر الذي تخللته مواجهات عنيفة وهجمات متبادلة بين الطرفين، سقط فيها مئات من الجنود المصريين والإرهابيين والأهالي، كما هدمت بيوت وخربت زراعات. وتوازى ذلك مع توجيه ضربات جوية لتجمّعات الإرهابيين وبؤرهم، ومع اتخاذ إجراءات أخرى شملت تهجير بعض الأهالي وحظر التجول وقطع الاتصالات وما إلى ذلك. وفي هذه الأثناء، ظهر تنظيم جديد باسم «أجناد مصر» قام أعضاؤه ببعض العمليات ضد الجيش والشرطة، وبدوا أقل خبرة ووزناً من «أنصار بيت المقدس»، إلا أنها ضعفت كثيراً بعدما قتلت الشرطة من وصف بأنه قائد التنظيم واسمه مجد الدين المصري.

في آخر العام الماضي (2014)، أعلن «أنصار بيت المقدس» انضمامهم إلى تنظيم «داعش» ومبايعتهم لقائده أبوبكر البغدادي، واختاروا لجماعتهم اسم «ولاية سيناء». ولم تمض أشهر عدة حتى فوجئنا بظهور جماعة «المرابطين» التي أسسها ضابط الصاعقة المصري المفصول هشام عشماوي، الذي صدر باسمه تسجيل استخدم بعض مقاطع من بيانات أيمن الظواهري الذي خلف أسامة بن لادن في قيادة تنظيم «القاعدة». وبرغم شح المعلومات المتواترة عن هذه الجماعات، إلا أن ما توفر لدينا يعطي انطباعاً بأن العنف والإرهاب في سيناء، الذي له أصداؤه في الدلتا والقاهرة يقوم به تنظيمان أساسيان هما: «داعش» و «القاعدة». ولكل منهــــما خلاياه وأفرعه التي لا نعرف عنها الكثير.

(3)

على صعيد السلطة، لا أستطيع أن أقارن بين الوضع في مصر وبينه في سوريا أو العراق أو ليبيا واليمن. إذ لا يشك أي باحث منصف في تماسك وضع السلطة والمؤسسة الأمنية في مصر، في حين أن ذلك التماسك مشكوك فيه أو غائب في تلك الدول التي ذكرتها. وإذ أزعم أن المشكلة لا تكمن في قوة السلطة، فإنني لا أستطيع أن أتحدث بالقدر ذاته من الثقة عن السياسات المتبعة ولا عن سلامة الأوضاع الاجتماعية السائدة في سيناء أو في عموم الواقع المصري. وهذا منطوق يحتاج إلى بعض الإيضاح.

ذلك أن مصر تعيش مشكلة موت السياسة وانتعاش الأمن. الأمر الذي يعني تراجع دور العقل والمراهنة على قوة العضلات. وهو ما استصحب غياباً ملحوظاً للحوار المجتمعي وحضوراً قوياً للإجراءات والمراسيم والقوانين. وفي هذه الحالة، يسمع صوت السلطة عالياً ويحبس صوت المجتمع. وفي مثل هذه الأجواء لا يستغرب أن يسود الاحتقان وتطفو المرارات على السطح ولا يُستخلص من الناس أفضل ما فيهم. وهو ما نلحظه في حملات تسويق الكراهية وتصفية الحسابات وغلبة الدعوة إلى الإقصاء والانتقام على الرغبة في التوافق وتعزيز الاصطفاف الوطني. وحين يتوازى ذلك مع تراجع سقف الحريات العامة وتسخير القانون والأبواق الإعـــــلامية لذلك، فإن أفق المستقبل يبدو مسدوداً بقدر انسداد الأمل في الإصـــلاح السياسي بما يستصحبه من مشاركة في السلطة أو تداولها.

من ناحية أخرى، فإن سيناء تحوّلت إلى ساحة قتال ارتفع فيها صوت السلاح بأكثر مما حضر الحوار، وتقدّمت الرغبة في الإخضاع على السعي للنهوض والإنماء. وخيّمت أجواء الشك والتوجّس حتى ارتفعت بعض الأصوات داعية إلى إخلائها من سكانها. وهذا الأسلوب كان له أثره السلبي على ثقة القبائل في السلطة، خصوصاً حين شعرت بأن أبناءها يعاملون كمتَّهمين لا كمواطنين.

وحين تعدّدت حملات القصف وقرارات التهجير والحظر، ومن ثم عمّ السخط والغضب، فإن سيناء تحوّلت إلى مستودع للمرارة وبيئة جاهزة لاحتضان التطرف والعنف. وكانت جغرافية المنطقة التي يعرفها أهل سيناء أكثر من غيرهم عنصراً مساعداً على استمرار التحدي وإطالة أمده.

هذا التحليل، إذا صح، فهو يعني أن المناخ العام في مصر مهيأ لتصعيد التطرف واتساع نطاق الإرهاب. ذلك أن ضحايا الصراع الحاصل سواء في سيناء أو في عموم أنحاء الوطن، وهم ليسوا قلة ولا تنبغي الاستهانة بأعدادهم، هؤلاء يشكلون تربة مواتية وجاهزة للانخراط في صفوف دعاة العنف والإرهاب. فلا أحد جبر بخاطرهم أو ترفّق بهم أو ضمّد جراحهم، أو حتى أعطاهم أملاً في أن أحزانهم أو محنتهم لها نهاية. وإذا أضفنا إلى ذلك أعباء المعيشة التي تضغط على الناس وتمسك بخناقهم، فسندرك أن الأفق ملبد بغيوم كثيرة لا ينبغي تجاهلها أو الاستخفاف بمخزونها.

(4)

أقاوم هاجساً يدعوني إلى القول بأن المستقبل في مصر لمصلحة «داعش»، وأرجو أن أكون مخطئاً في ملاحظتي أن أبواب العنف باتت مفتوحة على مصارعها، بقدر ما أن أبواب التوافق والتسامح باتت موصدة ومحكمة الإغلاق. وهي خلاصة تمنيت أن تكون موضع تدقيق وتحقيق، لأن النتيجة التي يتم الخروج بها يمكن أن تفتح أعيننا على أمور كثيرة يحجبها عنا الانفعال والإقصاء والاستغراق في الاستقطاب الحاصل الذي يختزل الصراع بين طرفين هما السلطة و «الإخوان»، في حين أن التهديد الأكبر هو ذلك الذي يصيب المجتمع والوطن.

صحيح أن الأسوأ لم يقع بعد، لكنه ليس مستبعَداً تماماً، وينبغي أن نفكر جيداً وندير أمورنا جيداً لتجنب وقوعه قبل فوات الأوان، لأن ما نلمسه الآن لا يطمئننا إلى استبعاد ذلك الاحتمال البائس.

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى