جغرافيا أميركا في مواجهة العالم (مصطفى اللباد)

 

مصطفى اللباد

يجري نقاش واسـع في أميركـا والعـالم راهناً لتقييم أداء وكفاءة إدارة أوبامـا بعد مرور ست سنوات على انتخابه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، لجهة قدرته على تحقيق المصالح الأميركية حول العالم. ومن الطبيعي أن تنقسم الآراء بين مؤيد لأوباما ومعارض لسياساته، ولكن ما لا يجب أن يغيب عن النقاش المحتدم أن جغرافيا الولايات المتحدة الأميركية – تتحكم إلى حد كبير- في توجيه سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة، بغض النظر عن شخص الجالس في البيت الأبيض وميوله وانحيازاته الأيديولوجية.

المحيط الأطلسي وهوية أميركا

تتأهب للعودة إلى بلادك بعد رحلتك البحثية حيث ستنتقل بالطائرة في إثنتي عشرة ساعة من نيويورك على الساحل الشرقي لأميركا إلى القاهرة؛ تقضي منها ساعات ستا كاملة عابراً المحيط الأطلسي من أميركا إلى أوروبا. تجلس في المطعم النيويوركي الشهير والواقع على ساحل الأطلسي مباشـرة، المتخـصص في تقديم المأكولات البحرية المختلفة الأصناف والألوان والأحجام؛ تلك التي تؤكل نيئة بأدوات مدهشة تشبه أدوات طبيب الأسنان. تزيح حساء الطحالب البحرية جانباً، وتتأمل في الأطلسي الذي يبدو مختلفاً عن كل البحار والأنهـار الأخرى في العالم. ومرد ذلك ليس تفرد منتوجات الأطلسي البحرية وإنما بسـبب كـونه نهاية العالم، حيث لا شيء أمامك سوى المياه. تبدو أميركا على الخارطة مثل شريحة أفقية كبيرة ممتدة من الشـرق إلى الغرب أي من المحيط الأطلسي إلى المحيط الباسيفيكي، ويبدو ساحلها الشرقي مثل فم مفتوح في مواجهة العالم بدايته ماين شمالاً ونهايته فلوريدا جنوباً. نجحت أميركا على مدار القرن الماضي في تبديل علاقتها الجغرافية بتوازنات سياسية مغايرة مع دول العالم المختلفة؛ بحيث أصبحت وكأنـها بداية العالم بين مياه المحيطين الأطلسي والباسيفيكي، في حين تصبح باقي دول العالم عند نهايته! حتى تستطيع عزيزي القارئ تخيل ما أحاول قوله، لاحظ أن مساحة أميركا تبلغ حوالي 9,83 مليون كيلومتراً مربعاً، وهي رابع أكبر بلد في العالم من حيث المساحة بعد روسيا وكندا والصين، في حين يبلغ عدد سكانها ما يزيد عن ثلاثمئة مليون نسمة لتحتل بذلك المركز الثالث عالمياً من حيث عدد السكان بعد الصين والهند. على ذلك يحتم الموقع الجغرافي على أميركا أن تكون قوة بحرية بكل ما لهذا المصطلح من معان وتبعات، ولهذا فقد ورثت أميركا زعامة القوى البحرية في العالم من إنكلترا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، في مواجهة القوى البرية بزعامة روسيا. يتمتع مواطنو الولايات المتحدة بسبب هويتها البحرية الصافية بفائض كبير من قيم الحرية والطموح الفردي غير المحدود، في حين تعتبر بلادهم أن المحيط الأطلسي الذي يفصلهم عن جغرافيا العالم الشرقي، أي العالم بدون كندا وأميركا اللاتينية، هي خط دفاعهم الأول. وبالفعل لم تجرؤ أي قوة في التاريخ الحديث على غزو الولايات المتحدة الأميركية بعد إعلان استقلالها، ولم يفكر الاتحاد السوفياتي السابق أو ألمانيا النازية – حتى مجرد التفكير – في غزو الأراضي الأميركية بسبب المحيط الأطلسي الذي يقف كحائط صد جغرافي للدفاع عن أميركا.
يعد المحيط الأطلسي، بالرغم من مزاياه كحائط صد، في الوقت ذاته عائقاً جغرافياً هـائلاً أمام أميركا، ولذلك نجد واشنطن الساعية للهيمنة على العالم بقوتها العسكرية الكاسحة تتخذ لنفسها قواعد عسكرية على امتداد خريطـة العـالم، كما أن أسطولها البحري – الأكبر في العالم بمسافة هائلة عن باقي الأساطيل – يمخر عباب كل البحار والمحيطات من دون استثناء، وفي وقت واحد. على ذلك يمكنك القول إن المحيط الأطلسي هو الذي صنع عظمة أميركا في الواقع، والتحدي الذي يمثـله يتحكم في أقدار أميركا منذ استقلالها، إذ إن الجغرافيا هي قدر الأمم الذي لا فكاك منه. وعلى ذلك، فقد نقلت أميركا معارك سيطرتها على العالم إلى ما وراء المحيط، إلا أن تزحزح بؤرة القوة في النظام الدولي الراهن جراء الصعود المتوقع لقوى دولية أخرى من شأنه أن يهدد هذا الاكتساح وتلك السيطرة.

المحيط الأطلسي وأوراسيا والشرق الأوسط

بعيداً عن الانحياز الأيديولوجي والميول العاطفية، لن نستطيع أن نفهم أهمية الشرق الأوسط للقوة العظمى الوحيدة الباقية، أي أميركا، دون إلقاء الضوء على المنطلقات الأساسية لعلماء الجيوبوليتيك الأميركيين، المؤثرين بشدة في تشكيل تصورات الرؤساء الأميركيين. هنا يمكن أن نسوق اثنين من أهم المفكرين الاستراتيجيين مثالاً على هذا التأثير: الأول قديم هو هالفورد ماكندر والثاني حديث وحي يرزق وهو زبغنيو بريجينـسكي. قام العالم الجـغرافي الشهير وعالم العلـوم السيـاسية هالفـورد ماكندر في عام 1904 بتأليف الكتاب الشهير «المحيط الجغرافي للتاريخ»، وهو أحد أشهر كتب الجيوبوليتيك في العالم. وفي الكتاب ظهرت نظرية ماكندر الشهيرة «قلب الأرض» إلى الوجود، التي يمكن تلخيصها في متوالية سببية كالتالي: «من يحكم شرق أوروبا يحكم قلب الأرض، ومن يحكم الأخـير يحـكم جزيـرة الـعالم وبالتـالي يحكـم العالـم كله». كانت نظرية ماكندر تتصادم مع المقولات الانطلاقية الإنكليزية القاضـية بالسـيطرة على الطرق البحرية لضمان السيطرة على العالم، ولذلك تأسس التصادم الفكري بين النظريتين على قاعدة أن «القوى التي تسيطر على أوراسيا يمكنها مهاجمة مستعمرات القوة البحرية» كما اعتقد ماكندر بشدة. وأوراسيا هي المنطقة الواقعة بين شرق أوروبا في الغرب وآسيا الوسطى والقوقاز في الشرق، والكلمة مشتقة من أوروبـا وآسـيا للدلالة على منطقة التماس بين القارتين. دخلت تقديرات ماكندر المتواضـعة عن أهمية الجغرافيا العربية ساحــات الانتقـاد لنـظريتـه من أوسـع أبوابهـا، كـما أنه عانـى من مركزية أوروبية مفرطة في تحليلاته. وبسبب الاحتياطات الهائلة من النفط والغــاز في الشـرق الأوسـط المكتشـفة بعد ماكـندر لم يعــد ممكـناً لأي قـوة عـظمى أن تدعي أنها كـذلك، دون وضعها في إطار بيئتها الأمنية والإستراتيجية.
ألقى زبغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جيمي كارتر والمستشار غير المعلن والأوسع تأثيراً على باراك أوباما، في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى» الذي ألفه عام 1997 الضوء على أهمية منطقة أوراسيا للولايات المتحدة الأميركية، التي تسبق الشرق الأوسط في أهميتها من المنظور الأميركي. وقال بريجينسكي متأثرا بشدة بما كتبه ماكندر من قبل:
«انتقل علم الجيوبوليتيك من البعد الإقليمي إلى البعد الكوني. مع وجود أهمية استثنائية لمنطقة أوراسيا في المصالح الكونية الأميركية. أميركا باعتبارها قوة لا تنتمي إلى أوراسيا تمدد سيطرتها إلى الحواف الثلاث لمنطقة أوراسيا والعدو المحتمل لأميركا في أي سياق تنافسي دولي قادم لا بد له أن يسيطر على منطقة الأوراسيا. وهكذا يتوجب على أميركا أن تمنع أيا من القوى الكبرى، روسيا أو الصين أو القوى الإقليمية الصاعدة مثل إيران وتركيا، من السيطرة على منطقة الأوراسيا». سيطرت أميركا منذ الحرب الباردة على ما أسماه بريجينسكي «رؤوس الجسور القارية»، حتى تستطيع احتواء الاتحاد السوفياتي وتمنع تمدده. في هذا السياق كانت منطقة الشرق الأوسط وما زالت رأس الجسر الكبير إلى الجنوب من أوراسيا، وتدخلات أميركا كلها في الشرق الأوسط خلال الحرب الباردة كانت بهدف احتواء وعزل الاتحاد السوفياتي، بما في ذلك الانقلاب الذي وقع على الزعيم الإيراني محمد مصدق وحكومته المنتخبة ديموقراطياً العام 1953 والانقلاب على الوحدة المصرية – السورية العام 1961 ثم حرب العام 1967 وما تلاها من تدخلات بهدف احتواء وريثته روسيا.

الجغرافيا حكماً والوقت سيفاً

من المبكر الآن الحكم على أوباما بالفشل مثل سلفه جورج دبليو بوش، ولكنه من غير الموضـوعي أيضاً دمغ سياساته الشرق أوسطـية بالنـجاح، لا سيـما أنه لم ينجح حتـى الآن في حل أي من القضيتين اللتين تصدى في فترتي ولايـته لحلهما دبلوماسياً، أي القضية الفلسطينية والملف النـووي الإيراني. قد يكون التاريخ باعتبار أحد تعريفاته – رواية القـصص – محل خلاف بين الباحثين، إلا أن الجـغرافيا ستـحكم على تقييم أوباما وإدارته بشكل لا يرحم. في هذا السياق يقيِّم بريجينسكي الفترة الرئاسية الأولى لأوباما بوصفها «ضائعة»؛ لأنها لم تشهد حلاً سلمياً ناجزاً للملف النووي الإيراني يكرس مصالح أميركا في رقعة جغرافيـة واسعـة من الشـرق الأوسـط إلى أوراسيا. باختصار سيحدد الملف النووي الإيراني مصـير أوباما وإدارته من حيث الفشل أو النجاح، وسيذهب العام الحـالي مؤشـراً على هذا المصير، كون الحل السـلمي للملف سيتطلب ترتيبات إقليمية جديدة، ومواجهات أميركية داخلية طاحنة بين مجموعات الضغط والمصالح في أميركا، وكلاهما (الترتيبات والمواجهات) سيستغرق شهوراً من الوقت ومقاومة عارمة من المتضررين أميركياً وإقليمياً. تبدو فرص أوباما في التقييم الآن، بعد انتصاف ولايته الثانية والأخيرة، متأرجحة بين النجاح والفشل وبميل نسبي إلى الأخير؛ وفي النهاية سيقطع الوقت بسيفه البتار قول كل خطيب!

صحيفة السفير اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى