كتب

جميلة حسين: سيرة الريف والطفولة المقتَلَعة

أغنار عواضة

تروي جميلة حسين في «يوم خُطِف أبي» سيرة طفولة اقتُلعت من البرازيل وأُلقيت في الريف اللبناني زمن الحرب. تبدأ الرواية بخطف يؤسّس لمسار هوية ممزّقة، وتبني سرداً عن العائلة، والعمل المبكر، والقرية بوصفها فضاءً للنجاة لا للحنين

 

تفتتح الشاعرة والروائية اللبنانية جميلة حسين روايتها «يوم خُطِف أبي» (دار النهضة العربية، بيروت، 2025) بمشهد يخترق ذاكرة القارئ منذ الصفحات الأولى: مشهد الخطف من ساو باولو.

مشهد عنيف يؤسّس للسيرة كلها، ويكتبها بمداد تراجيدي لن تنساه أجيال عدة. فالهوية والنسب والدم تظهر هنا كصراع أبدي يتجاوز الأشخاص ليطال معنى الانتماء والمصير.

من هذا الباب الوجودي ينفتح النصّ على عالم الريف اللبناني، حيث يستعيد الطفلان حياتهما في بيئة مختلفة تماماً عن تلك التي انتُزعا منها. وهكذا تتحوّل العودة القسرية من البرازيل إلى القرى إلى مرآة واسعة تكشف هشاشة المرحلة، والظروف الاجتماعية التي صنعتها الحرب وما تلاها من فقر وانتظار وتحوّلات قاسية.

الريف زمن الحرب: جغرافيا الفقر والانتظار

ترسم الرواية لوحة دقيقة لحياة الريف خلال سنوات الاضطراب، حين كانت القرى البعيدة من العاصمة تعتمد على أرضها وموروثها ونسائها. تبرز الكاتبة تفاصيل يومية تكشف عمق تلك المرحلة: المنازل البسيطة، وتوارث الأرض، والنساء اللواتي يحملن أثقال البيت في ظل قلة الخيارات. وتتوقّف الرواية عند ظاهرة كانت شائعة آنذاك: عمل الفتيات الصغيرات في تنظيف البيوت في المدن. تقدّمه جميلة حسين بوصفه عملاً مشرّفاً ونظيفاً، قائماً على الكرامة لا على الاستغلال، وعلى الوعي العائلي لا على القسر.

كانت الفتيات بمنزلة العمود الفقري للبيت، يعملن في سنّ مبكرة لأن الأسرة بأكملها تحتاج إلى هذا الدخل لتستمر. لم يكن العمل مظهر ضعف، بل دليل مسؤولية وقوة، يشكّل رافعة اقتصادية واجتماعية للعائلة.

البُعد السوسيولوجي: العمل كهوية ودور اجتماعي

يتّسع المعنى السردي هنا ليحمل بُعداً سوسيولوجياً واضحاً. فكما يشير بيار بورديو في تحليله لـ«تقسيم العمل الرمزي»، فإن المجتمعات تحدّد أدواراً للجندر تعكس الثقافة الريفية وتُعيد إنتاجها. لكن الرواية تُظهر أن هذا الدور لم يكن امتثالاً ساذجاً لعادات قديمة، بل تحوّل إلى قوة اجتماعية أسهمت في بقاء الأسرة وصمودها.

عمل يكتب الجرح والهوية بلغة لا تخون الحقيقة

بينما يقدّم إميل دوركهايم مفهوم «التكافل العضوي»، الذي يصف المجتمعات الحديثة حيث تتكامل الأدوار مهما اختلفت قيمتها. وتظهر الرواية هذا التكامل بوضوح: عمل الفتيات المبكر كان جزءاً من شبكة أدوار صغيرة لكنها حاسمة في استمرارية المجتمع الريفي.

ويضيف أنتوني غيدنز فكرة «بناء الهوية عبر الممارسة»، وهو ما تتجسّد في الرواية حين نرى الفتاة تُشكِّل ذاتها عبر العمل، وتبني ثقتها بنفسها، وتكتسب إحساساً بالاستقلال داخل منظومة محافظة. هكذا يتحوّل العمل إلى هوية فعلية، وإلى مساحة للكرامة لا يمكن تجاهلها.

الخطف… حين تتداخل السلطة العائلية مع الجغرافيا

في هذا السياق الاجتماعي الحادّ، يظهر فعل الخطف كقوّة لا تُفسَّر بالقانون وحده، بل بترسّبات ثقافية عميقة؛ إذ يرى الجدّ أن الدم يسبق كل شيء، وأن له حقّاً في الوصاية على الطفلين، حتى لو جاء هذا الحقّ عبر انتزاعهما من حياة كاملة. وهكذا يصبح الخطف رمزاً لاقتلاع الذات من جذورها الأولى، ولتصادم هويتين وذاكرتين ومنطقتين من العالم.

سلاسة السرد وبراعة الإمساك بالخيط الحكائي

تكتب جميلة حسين الرواية بسردٍ رائق وسلس، يمتدّ بين الأماكن والأزمنة من دون فجوات. جمل قصيرة متينة، ومقاطع تتنقّل بين صوت الطفلة وصوت الراوية بمرونة تشبه تدفّق الذاكرة. هذه السلاسة ليست تجميلاً، بل قيمة أساسية في بنية الرواية، تمنح القارئ شعوراً بأن عليه أن يواصل القراءة كما لو كان يستعيد ذاكرته الخاصة.

بين الذكريات والهوية: بحث عن مكان آمن

تنفتح الرواية على أسئلة الهوية الكبرى: هل تصنعها اللغة؟ أم الجغرافيا؟ أم الذاكرة الأولى؟

تؤكد جميلة حسين أن الهوية مسار طويل، يعبر الألم والانتماء معاً، ويتشكّل في المسافة بين ما نتركه خلفنا وما نُجبر على مواجهته. «يوم خُطِف أبي» ليست رواية عن حادثة فقط، بل عن مجتمع بأسره، عن ريف مهمَل يصنع بطولته اليومية من العمل الصامت، وعن بنات حملن بيوتهن بكرامة، وعن طفولة انتُزعت ثم أعادت تخليق ذاتها.

وبسردها السلس ولمستها الإنسانية، تقدّم جميلة حسين عملًا يظلّ عالقاً في الذاكرة، لأنه يكتب الجرح والهوية بلغة لا تخون الحقيقة.

صحيفة الأخبار اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى