جنيف: حل الأطراف المنهكة (سليمان تقي الدين)

 

سليمان تقي الدين


بذل الأميركيون والروس جهوداً حثيثة لكي يحضر فرقاء النزاع في سوريا مؤتمر جنيف 2. بل هم اشتغلوا على ترتيب أوضاع المعارضات ميدانياً وسياسياً. يصرون على حصول التفاوض كمدخل إلى الحل السياسي على أساس مبادئ جنيف 1، أي التفاهم الأميركي الروسي. يرتكز جنيف واحد على ثلاثة مبادئ معلنة: الحفاظ على وحدة كيان سوريا واستقلالها، الحفاظ على الدولة جيشاً ومؤسسات، حكومة انتقالية كاملة الصلاحيات تشرف على تنفيذ الحل السياسي النهائي. في المبدأين الأولين لا مشكلات مهمة. ليس هناك من طرف يعلن رغبته في "دولة اتحادية" كما حصل في العراق، لا الكرد ولا أي من المكوّنات الأخرى. يدور الخلاف على سلطة المرحلة الانتقالية والحكومة وصلاحياتها إزاء النظام الرئاسي القائم والقبضة الاستثنائية على السلطات والمؤسسات جميعاً. يقول النظام إن الرئيس السوري يقود أو يشرف على العملية الانتقالية، وتشترط المعارضة أن يؤدي التفاوض إلى شكل من أشكال استبعاده عن هذا الدور.
يقترح النظام هيئة تأسيسية تقرّ دستوراً ثم حكومة، أو القبول بالصلاحيات الحالية للحكومة والمشاركة فيها. هذه بالطبع مناورات من الطرفين. إن مجرد القبول بمبدأ التفاوض تحت رعاية دولية وإقليمية هو استعداد لإيجاد مخارج غير دستورية شكلية أمام حجم الكارثة السورية التي أطاحت كل معايير الدولة الدستورية والسيادة والاستقلال. المخرج الفعلي المتاح والسليم هو التفاوض على طبيعة النظام المقبل شراكة بين أطراف النزاع وتشكيل حكومة تحدّد فيها التوازنات وتتولى السلطة على المؤسسات العسكرية والأمنية بضمانة المرجعيات الدولية والإقليمية. يحتاج الطرفان طبعاً إلى بعض المخارج المعنوية لكنه لا يجوز الوقوف عندها في السعي إلى تسوية تاريخية ليست مقتصرة على أطراف الداخل. فرصة جنيف لا يصح أن تضيع أو يجري التفريط بعامل الزمن حيالها عبر "المماحكات" غير المجدية.
أصبح واضحاً أفق الحل السوري النهائي في الإطار الذي رسمته القوى الخارجية الفاعلة وكذلك خريطة التوازنات الداخلية ليس فقط العسكرية التي هي طارئة وثانوية، بل الاتجاهات السياسية وما صار ظاهراً من مكوّنات الشعب السوري بعد إغفاله طويلاً. في بلد كسوريا الحل هو في النظام الجمهوري البرلماني الذي يحفظ التعددية وفصل السلطات والتوازن بينها، والدولة المدنية التي كانت سوريا مؤهلة لها منذ مملكة فيصل والدستور الذي أعلنه. وهي ضرورة أكثر مع تداعيات الحرب الأهلية وهواجس الجماعات المختلفة والمتعددة جداً. لقد أظهرت الأزمة السورية هيمنة للحركات الإسلامية على الحركات المدنية التي بدأت بالانتفاضة. لكن المجتمع السوري ليس موالياً لهذه الحركات ولا منساقاً وراء ثقافتها. كان العنف مصدراً أساسياً لكل الظواهر غير المدنية، كما المداخلات الخارجية التي عززت الاتجاهات التكفيرية والتطرف والطائفية، وحملت الفوضى معها كل السفالات والحقارات البشرية.
يعكس جنيف 2 عمق التفاهم الأميركي الروسي وحاجته إلى إطفاء الأزمات، كما يعكس حاجة القوى الإقليمية إلى مخرج من حالة الاستنزاف التي لم تعد مجدية وقد طال أمدها وتهدّد بمضاعفات على الدول المجاورة. لن تتوقف هذه الدول عن محاولات الاستثمار السياسي في الأزمة السورية ولن تتخلى عن أوراقها وحلفائها لكنها جادة في التفاوض وفي إيجاد التسويات التي تحفظ العناصر المهمة من مصالحها في الحل السياسي بعد تراجع عوامل القوة العسكرية. هذه القوة العسكرية تقريباً استنفدت إمكاناتها على إحداث تحوّل جذري أو نوعي وهي عاجزة أصلاً عن إعادة بناء الدولة السورية على أساس القوة أو النظام الأمني أو من حول نواة عصبية واحدة أو طائفة أو جماعة. قد تطول جولات العنف في سوريا لكن المستقبل بدأ يرتسم في خفض منسوب الدفع الخارجي عبر الحدود وفي جدية التفاهم الأميركي الروسي وتأكيده مبادئ جنيف واحد وفي انكفاء الموقف التصعيدي الذي طبع الدول الإقليمية المتدخلة كلها. ومن دلائل ذلك تركيا وإيران والمملكة السعودية والعراق ولبنان. كل هذه الأطراف تقوم بعملية تراجع منظّم بعدما دفع الشعب السوري هذا الثمن الباهظ لمصلحة كل هذا الخارج.

صحيفة السفير  اللبنانية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى